المخيم إذ يصبح هوية قاتلة لصانعيه

يضع المخرج والممثل الفلسطيني محمد بكري في فيلمه الروائي القصير الجديد «يرموك»- 8.8 دقائق – نفسه أمام جملة من الأسئلة التي تتعدى الجانب الفني الذي ينكشف عادة من وراء ظهور عمل فني للعلن. لا يستهلك بكري الجانب الأخلاقي في فيلمه ببساطة كما أفادت التعليقات أو بعض الكتابات التي ظهرت من حوله على مواقع التواصل الاجتماعي التي « تجرأت واجترّت» مقالة يتيمة كتبت حول فيلمه الذي كان ينام «هادئاً» على الشبكة العنكبوتية منذ وقت لا بأس به لأسباب شخصية على ما يبدو، وغرفت بدورها من أشياء شخصية حشدها بكري في إنتاج فيلمه، بدءاً من كتابة القصة التي اضطلع بها ابنه الممثل صالح بكري، وليس انتهاء باثني عشر شخصاً من آل بكري عملوا معه على هذه الدقائق الثماني، ومعهم كل أهل قرية البعنة «الذين عملوا معه كمساعد مخرج».

يستطلع المخرج محمد بكري عبر مشهد بانورامي واحد ما يفترض أنه حياة عائلة فلسطينية في غرفة واحدة. عائلة مهمومة. الوجوم يسيطر على أفرادها: الأم وأولادها والأب ( بكري )، وفي حركة قلقة من الكاميرا من وجهة نظر الأب تتجول بين ابنتيه نفهم أنه اختار الصغرى لسبب ما. يبدو الحل الإخراجي بسيطاً ومطابقاً لواقع الحال الذي ينطلق منه المخرج نحو بناء عوالم فيلمه وقد اختار لها أن تكون بالأسود والأبيض من دون هدف درامي واضح. فليس الوضع المأسوي القاتم الذي يخيم على سورية «والناس الذين عضهم الجوع والقهر» نتيجة الأحداث الدامية التي تعصف بها منذ ثلاث سنوات، هي التي دفعت إلى هذا الخيار كما نعتقد. بالطبع لسنا في وارد التقليل من شأن وجهة نظر محمد بكري في الأحداث السورية، وما يمكن البناء عليه انطلاقاً منها. فنحن نقف قبالة فيلم متين لجهة الصورة الليلية التي اختارها له، ولكنه انطلق أساساً من قصة ملتبسة أرادها منتقدوه مقدمة للنيل من مشروعه الفني والثقافي بدليل التهجمات التي لفت مواقع التواصل الاجتماعي وهي تندد به وبعائلته التي ساعدت في إخراج فيلمه.

مصائر مسبقة

إعلان

إعلان

إعلان

فيلم «يرموك» لا تزيد من «أخطائه» سقوط أل التعريف منه، فمن حق المبدع أن يسقط ما يشاء وهو يعيد تركيب تلك البرهة التي يظن للحظة أنها تساهم في تجديد نظرته للعالم. ومحمد بكري الذي أراد أن يقدم يرموكاً في كل مكان في هذا العالم العربي إنما يتعدى تلك النظرة الساذجة للنقد، وإن وقع هو بدوره في مطب الفكرة الساذجة، أو الفكرة القاتلة التي لم يسعفها اجتهاده على الصورة، وتلك الوجوه الواجمة التي ترسم مصائرها حتى من قبل أن نقع على النهاية المفترضة، حين ينطلق بسيارته القديمة ومعه ابنته الصغيرة التي وقع عليها تفضيل الكاميرا ليقف بمحاذاة سور ضخم وفوقه عمود كهرباء مضاء، حتى نلمح سيارة مرسيدس ضخمة تجيء لتقف قبالته وينزل منها رجل ضخم يقترب من سيارة بكري وابنته ويقوم بفحص أسنان الابنة ويعود إلى سيارته ثم يرجع ويحادث ثرياً عربياً ويعود ثانية نحو الأب الحزين المهموم في سيارته ويناوله «رزمة غامضة» من المال، فنحن لا نعرف هوية هذا المال، وإن اكتفى بكري بالقول «إنو اتفاقنا كان ألف وهدول خمسمية»، فيرد عليه ذلك «الطبل» الدرامي قائلاً: «بيكفي أسنانها خربانة». لم يقل أحد أن الطريقة في اختيار فتاة صغيرة تمتلك أسناناً لبنية يمكن توظيف حكايتها بهذه الطريقة الساذجة إذ تعرض للزواج بهذه الطريقة الكاريكاتورية التي ظهرت عليها في فيلم «يرموك». كان ممكناً تعريض الحكاية لمعالجة أشد «مكراً» حتى لا يقول أحد من هؤلاء «النقاد» إن الفلسطينيين لم يتورطوا حتى هذه اللحظة بتزويج بناتهم بهذه الطريقة في كل المآسي التي عبروا بها لخصوصية في أوضاعهم ، وهم على فكرة من أشد المدافعين عن «التحام» الفلسطينيين بـ «الثورة السورية»، ومع تغييب تلك الخصوصية التي أرادها البعض للنأي بنفسه عن «المحدلة» السورية حين كان ذلك ممكناً، ولكن عندما يتعلق الأمر بوهم التميز يرفض هذا البعض أن تساوى قصته بفتاة سورية واحدة من مخيم الزعتري جرى تزويجها بذات الطريقة، وينتفض جرياً وراء تفسير تيتر ظهر في الفيلم في المقدمة أو في النهاية.

التعويذة

أما بكري فإنه يحسن حين يسقط أل التعريف عن المكان الذي أراده لفيلمه. لم يعد هو مخيم اليرموك، ربما من باب شق عصا المخيم السحري حتى يفك تلك التعويذة التي يحتاجها الفلسطيني وهو «يتغزل» بمخيمه حتى أن المخيم يتفوق بذلك على فلسطين – الفكرة المشتهاة – وهو يأبى أن يغادره لأن «العري الأقصى» كما يقول عنه جان جينيه في نصه «أربع ساعات في شاتيلا» يكون ماضوياً، وهذا ما قد يفسر سبب تعلق الفلسطيني بمخيمه من دون أن يحظى بمغفرة من هم حوله أو يتأثر بها. الآن في «المعضلة» السورية يصبح للمخيم الفلسطيني شأن آخر يختلف عن شأن بقية المخيمات الفلسطينية في الشتات. صحيح أن بكري بدا في فيلمه ولو لوهلة وكأنه يظهر «تسطيحاً» للقصة لجهة معالجتها، أو هو يصنع «هوية» قاتلة لأهله، ولكنه بدا في الوقت نفسه وكأنه يحاول الخروج من تلك الألغام الجديدة التي ظهرت في المخيم الفلسطيني كما لم تظهر من قبل.

 

+ -
.