بعد أقل من عقدين على دراسة الراحل نزيه الأيوبي «تضخم الدولة العربية»، يحاصرنا الواقع بحقيقة جديدة عن مصير الدولة في منطقتنا العربية.
يميز الأيوبي بين الدولة «الضارية» والدولة «القوية». دولنا ضارية في التعامل مع مجتمعاتها لأسباب تتعلق بطبيعة الأنظمة وسبل بسط سيطرتها وموارد الثروة الوطنية التي تتعرض في الغالب إلى النهب والمصادرة من جانب المجموعة الحاكمة. الدولة القوية تتميز باستقرار سياسي واجتماعي وقاعدة حقوقية ودستورية تتيح لها تحصيل حقوقها بمجرد التلويح بالعقاب.
ضراوة الدولة العربية البائسة، والتي على رغم عنفها «تخفق في النفاذ إلى المجتمع»، أفضت إلى الوضع المحبط الذي كشفته الثورات العربية. من المفيد هنا استعادة بعض الملامح العامة في تطور الدولة العربية. فقد قامت هذه على مبدأ الجباية بعد توقف ريوع الفتوحات الأولى أو «الفيء والأنفال»، في نهاية العصر الأموي. نجد صدى الأزمة الاقتصادية الأولى التي واجهتها الدولة العربية، في العصر العباسي، في كتب التراث التي تبحث في كيفية تقسيم الأراضي بين ما يخضع للجزية وما ينطوي ضمن عائدات الخارج ومن هي الفئات التي يتعين عليها دفع الضرائب للدولة العربية – الإسلامية. في العصور اللاحقة، خصوصاً في المرحلة المملوكية، بدأت عائدات التجارة تشكل عائداً مهماً من تمويل الدولة. نهاية الحروب الصليبية فتحت باب التبادل بين ضفتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية. استمرت هذه الحال في المشرق مع مجيء العثمانيين. أما في المغرب فظهر «الجهاد البحري»، أو ما يسميه الغرب «القراصنة المسلمون»، كجزء مكون من اقتصاد الممالك والإمارات المغربية (من تونس والجزائر والمغرب الحاليين).
طرأ الكثير من الصعود والهبوط على هذه المكونات الاقتصادية للدول العربية على امتداد القرون مثل نهاية طريق الحرير والاكتشافات الجغرافية الكبرى وتضاؤل أهمية البحر المتوسط، ما أعاد الضغط الشديد على الجباية على الموارد الزراعية.
مع مجيء الاستعمار، ظهرت مشكلة جديدة. طرق التمويل التي حملها المستعمرون، خصوصاً في المناطق التي شهدت استطياناً كثيفاً مثل الجزائر والمغرب، تعارضت مع الاقتصاد التقليدي. فإلى جانب القروض وفوائدها والربا الصريح، اعترض فقهاء المناطق المحتلة على الضرائب التي فرضها المحتل والتي يدخلها الفقه ضمن «المكوس» المكروهة إسلامياً (أو على الأقل فقه المذهب المالكي السائد في المغرب، على ما يشرح عبدالله العروي في كتابه «مجمل تاريخ المغرب»). مشكلة تمويل جهاز الدولة والحفاظ على قوة عسكرية دائمة، لم تجد حلاً لها في ظل التنازع الكبير على الموارد القليلة أصلاً، بين المستوطنين والأهالي الذين طردوا من أرضهم. في المشرق كان تغلغل رأس المال الصناعي الأوروبي، خصوصاً في المنطقة الممتدة من حلب إلى جبل لبنان، يتركز على القطاعات المربحة من الغزل والحرير. ظلت الزراعة بعيدة من الاستثمارات المالية وخاضعة كلياً للدورات التقليدية ولضرائب السلطات العثمانية. بعد هزيمة السلطنة وانسحابها، كانت الفئات المتعاونة مع الغرب (وهذه متعددة الطوائف، خلافاً لاعتقاد شائع) هي الأكثر استعداداً لأداء دور النخبة السياسية. بيد أن هذه الفئات وقعت ضحية صراعاتها على الموارد الشحيحة. ثم جاءت الانقلابات وعسكرها وكان ما كان مما نذكره جيداً.
بعد الثورات العربية، تعود مشكلة الدولة العربية إلى الظهور مجدداً. الحلقات المفرغة التي تسير فيها المراحل الانتقالية في أكثر من بلد، وسطحية الحلول المقترحة في بلدان أخرى (مثل تبديل لمبات الكهرباء بأخرى اقتصادية، كعلاج لظاهرة انقطاع التيار في مصر، مثلاً) وانهيار الحدود وصعود المكونات العشائرية والقبلية في سورية والعراق المتسربلة بلباس ديني متطرف، تقول كلها إن التفكير الجدي في المسألة الاقتصادية كعنصر أساس في بنية الدولة العربية لم يبدأ بعد، وإن سرقة النفط في الشرق السوري يحيل إلى نوع من «التراكم البدائي» الذي يلجأ إليه مغامرون يحملون مشروع «دولة» تقوم على الريوع والأنفال، وإن الطريق من هنا طويل جداً إلى الدولة القوية.