بامبرغ مدينة ألمانية متعددة الوجوه

يندر أن تتميز مدينة بعدد كبير من الأوجه، مثلما تتميز به مدينة بامبرغ الألمانية الواقعة في اقليم فرانكونيا العليا (شمال بافاريا). والفرانكيون عند العرب هم الفرنجة، ومن أشهر ملوكهم شارلمان، وضمت امبراطوريتهم أجزاء كبيرة من ألمانيا وشمال فرنسا.

وبامبرغ مركز ديني لوجود أسقفية مهمة فيها، وهي مدينة ثقافية تشتهر بالفنون والموسيقى، ومدينة جامعية معروفة، وتعتبر عاصمة الجعة في ألمانيا، ومدينة سياحية من الدرجة الأولى تشتهر بتنوع تضاريسها وبمناظرها الرائعة، وفوق ذلك هي مدينة صناعية (صناعة المكائن والألكترونيات ومواد البناء والصناعات الغذائية)، ومنها تبدأ قناة الراين-الماين-الدانوب، التي تربط شمال ألمانيا بالدانوب فتصبح الطرق المائية بين بحر الشمال والبحر الأسود سالكة. المدينة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها حوالى 71 ألفاً فقط فيها 16 متحفاً، إضافة إلى 14 متحفاً في محيطها.

مركز المدينة لا يزال على حالته الأصلية، فبسبب خلوها من المواقع العسكرية أو الإستراتيجية لم تدمر الطائرات البريطانية أو الأميركية في الحرب العالمية الثانية منه إلا النزر اليسير (حوالى 4 غي المئة فقط) بعكس غالبية المدن الألمانية الكبرى التي سويت بالأرض. وهذا يقودنا للحديث عن أحد أشهر مهندسي صناعة الطيران الألمانية، فلهلم أميل ميسرشميت (1898-1978) الذي عاش طفولته في بامبرغ، وإليه يعود الفضل في بناء طائرات ميسرشميت الشهيرة. إذ امتلكت العائلة متجراً لبيع الخمور في مركز المدينة وقد تحول اليوم إلى فندق عصري قضيت فيه ليلة مريحة هو فندق ميسرشميت.

ومن أبناء المدينة الآخرين نذكر الفيلسوف الكبير هيغل (1770-1831) الذي عمل فيها وكتب أول أعماله هناك. ومن الأولين الإمبراطور هنريك الثاني (972-1024) وملك ألمانيا كونراد الثالث (1093-1152). أما من العصور المتأخرة فقد اشتهر متعدد المواهب الكاتب والموسيقي والناقد والمحامي أرنست هوفمان (1776-1822) الذي خلده الموسيقار الفرنسي جاك أوفنباك في أوبرا «قصص هوفمان». كما يعود العالم المجري المستشرق وعالم التركيات الشهير آرمين فامبيري (1832-1913) في أصوله إلى هذه المدينة.

دخلت بامبرغ قائمة التراث العالمي لليونيسكو في 1993 بسبب مركزها القديم وعمارتها التي حفظت بشكل جيد، حيث نجد أبنية العصور الوسطى تتجاور مع أبنية العصور التالية. وهناك 2400 بناية محمية في المدينة. وتكنى بامبرغ بلقب روما الفرانكونية، إذ شيدت على تلال سبع مثل مدينة روما القديمة بحسب الأساطير. ونجد كنيسة أو ديراً فوق كل تل من هذه التلال، وكثير منها يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي.

لكن أغرب ما يجذب الزائر هو بناية البلدية القديمة، فقد شيدت في العام 1386 وسط نهر ريغنيتس، على جزيرة ترتبط بجانبي النهر بجسرين. وتقول الرواية إن أسقف بامبرغ لم يمنح المواطنين قطعة أرض ليشيدوا عليها بناية البلدية خشية تنامي قوة البرجوازية، فقام السكان بصنع جزيرة من الأخشاب والصخور وسط النهر الذي كان الحدود الفاصلة بين المدينة التابعة للأسقفية الواقعة على التلال والجزء الذي تقطنه البرجوازية الصاعدة التي كانت تطمح للمزيد من السلطة. وأعاد المواطنون بناء البلدية على الطراز القوطي في منتصف القرن الخامس عشر لتأخذ شكلها الحالي المعروف اليوم. وبنيت لاحقاً إضافات في منتصف القرن الثامن عشر، هذه المرة وفق ذوق عصر الباروك والروكوكو الذي تميز بالزخرفة الباذخة. وتغطي جدران البلدية القديمة رسوم مجسمة ثلاثية الأبعاد وهي اليوم متحف يحوي مجموعة نادرة من الخزف الصيني (البورسلين) تعرف باسم مجموعة لودفيغ.

وترتفع كاتدرائية القديس بطرس وجورج بأبراجها الأربعة فوق المدينة (طولها 81 متراً)، وتعود إلى السنوات الأولى من القرن الحادي عشر (1004-1012)، فقد بناها هنريك الثاني على الطراز الروماني، ودفن فيها مع زوجته، كما دفن فيها البابا كلمنس الثاني. وأعيد بناؤها بين 1081 و1111 بعد دمارها جزئياً بسبب حريق. وأخذت شكلها الحالي أخيراً في العام 1237. من نفائس الكاتدرائية تمثال لفارس يعرف بفارس بامبرغ، وقبر الإمبراطور هنريك وزوجته الذي يعتبر تحفة فنية من المرمر المنحوت في القرن السادس عشر.

نجد على يمين الكاتدرائية القصر القديم Alte Hofhaltung حيث سكن الأساقفة الأمراء في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فقد تركزت السلطة الدينية والسياسية بيد شخص واحد. أما قصر الإقامة الجديد Neue Residenz الذي شيد على طراز الباروك بين 1698-1704 ليكون مقر الأسقف فيوجد مقابل الكاتدرائية والقصر القديم. ونجد ضمن حدائق القصر الجديد حديقة الجوري (الورد الدمشقي) الشهيرة التي تتباهى بـ 4500 غرسة. وتقدم في هذه الحديقة حفلات موسيقية في أماسي أيام السبت خلال الصيف.

ويقع دير جبل ميشايل التابع للرهبنة البَنَدَكتية على التل المجاور، ويعود تاريخه إلى أوائل القرن الحادي عشر هو الآخر. أما الكنيسة الموجودة ضمن الدير فتعود إلى 1617 بعد إعادة بنائها إثر حريق شب في 1610.

طرد الجنود البافاريون الرهبان البندكتيين من الدير في 1804، ونقلوا محتويات الدير من الكتب والمخطوطات الثمينة إلى ميونيخ ومكتبة بافاريا الوطنية، وسلموا المجمع الضخم لبلدية بامبرغ التي حولته إلى دار للعجزة ومشفى بعدما ضمت فرانكونيا إلى مقاطعة بافاريا في 1803. ويوجد ضمن المباني اليوم معمل للجعة ومتحف البيرة الفرانكونية، ومطعم راق يحمل اسم الدير. وقد صنع الرهبان البندكتيون الجعة هناك منذ سنة 1122، ويعرض المتحف كل ما يتعلق بتاريخ وأدوات صنع الجعة على مساحة تبلغ 900 متر مربع.

تتميز المدينة بتنوعها الديني مع غالبية كاثوليكية، فهناك كنائس كاثوليكية وبروتستانتية (انجيلية)، وكنس يهودي، وفي العصر الحديث جرى تأسيس ثلاثة مساجد هي: مسجد السليمية التابع للاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية وجامع المركز الإسلامي الثقافي وهما مسجدان للأتراك، إضافة إلى المسجد الألماني – العربي.

وبامبرغ مدينة جامعية أيضاً، فجامعة أوتو فريدريش تستقبل 12000 طالبة وطالب، وتدرس فيها اختصاصات الإنسانيات واللاهوت وعلوم الاتصالات والعلوم الاجتماعية والاقتصاد. وهذه الجامعة هي وريثة أكاديمية بامبرغ التي تأسست في 1647.

وتشتهر فرقة بامبرغ السيمفونية التي تأسست في 1946 على صعيد عالمي، ولا يقل عنها شهرة رباعي بامبرغ الوتري، وفرقة الموسيقى القديمة التي تخصصت بموسيقى القرون الوسطى وعصر النهضة في انعكاس للتنوع التاريخي الذي تتميز به المدينة. وبامبرغ من المدن الألمانية الشهيرة بغاليراتها ومحال بيع التحف والكتب والمخطوطات القديمة والأعمال الفنية النادرة. وتستقبل فيلا كونكورديا، وهي قصر يقع على نهر ريغنتس، ستة فنانين من ألمانيا وستة آخرين من مختلف بقاع العالم كل عام في منحة تفرغ لمدة سنة كاملة، بتمويل من حكومة مقاطعة بافاريا. وتمنح هذه الفرصة إلى شعراء وكتاب وفنانين تشكيليين أو موسيقيين، لتعزيز العلاقات بينهم وتنشيط الحياة الفنية في المدينة وإغنائها بالجديد دوماً.

هناك عدد من المهرجانات السنوية تقام في المدينة تجتذب السواح، منها مهرجان كالدرون للمسرح الذي يقام في حزيران (يونيو) من كل عام في باحة القصر القديم وتقدم فيه عروض مسرحية، ومهرجان «السحر» حيث سيتجمع فنانو ألعاب الخفة والسيرك في نهاية الأسبوع من 18 إلى 20 تموز (يوليو) هذا العام لتقديم عروضهم الأخاذة. ومن المهرجانات الشهيرة المميزة لمنطقة فرانكونيا مهرجان ساندكرفا (22-24 آب/ أغسطس) وهو أكبر مهرجان شعبي متنوع في المدينة. ولا يفوتنا ذكر سوق عيد الميلاد التقليدي، وهو مهرجان للتسوق تتميز به أغلب المدن الألمانية والأوروبية عموماً، ويستمر خلال الأسابيع التي تسبق عيد الميلاد.

لا يوجد في المدينة سوى مطار صغير، وأقرب مطار كبير هو مطار نورنبرغ (وتسمّى كذلك نورمبرغ، ويبعد نصف ساعة بالسيارة)، كما يمكن الوصول إليها من مطاري فرانكفورت وميونيخ العالميين. وترتبط بامبرغ بكثير من المدن الألمانية الرئيسية عن طريق السكك الحديدية. أما المواصلات الداخلية فتتميز بغلبة الحافلات التي تسير في شبكة كثيفة، تمر حتى في أضيق الطرق الوعرة التي تميز المدينة القديمة. ومن المستحسن شراء كارت بامبرغ الذي يخول حامله استعمال وسائط النقل ودخول المتاحف مع جولة سياحية مجانية لساعتين بصحبة دليل (سعر الكارت 12 يورو).

وهناك عدد كبير من الفنادق منها فندق ميسرشميت المذكور، إلى جانب عدد آخر كبير من النزل التي تتميز بمطابخها الفاخرة في المدينة. وكذلك في القرى المحيطة بها، مثل فندق التيجان الثلاثة Hotel Drei Kronen أو نزل هون Brauerei Gasthof Höhn في قرية مَملزدورف التي تبعد 7 كم عن بامبرغ. وهي فنادق ونزل نظيفة ومؤثثة بذوق رفيع ومزودة بكل المستلزمات العصرية.

+ -
.