كان ذلك زمناً بعيداً، عندما قرأت روايته الأثيرة «وداعاً غولساري». كان الزمن في بغداد السبعينات، زمن الشغف بالكتب والروايات والأشعار الروسية، تلك التي كنا نحصل عليها بسهولة وبطريقة مجانية من المركز الثقافي السوفياتي أيامئذ، بحيث صنعت تلك الرواية الجميلة إكسيرها الخاص، عبر ثيمة الوداع بكل ما يحمل من معنى للغياب والفقدان، والتواري والتلاشي داخل الحياة والوجود. فكنا حين نودع بعضنا بعضا في المقهى، أو قبيل السفر والابتعاد والنأي القسري والمفاجئ، كنا نتبادل هذه الجملة: «وداعاً غولساري».
اليوم وبعد مرور عقود، أعود لأقرأ لصاحب «الكلب الأبلق الراكض على حافة النهر» و»الجبل» رواية قصيرة، أو قصة طويلة، ساحرة ومثيرة ومدهشة في نسيجها المحكم المشوّق والآسر معاً، وهي رواية «جميلة» التي كتبها جنكيز إيتماتوف الكاتب الروسي الشهير في منتصف الألفية الماضية، عن أزمنة الحرب والسلم في القرى الكازاخستانية والقرغيزية. والرواية تنصب كتابة ورؤية وتصوراً على موضوعة الحب في وقت الحرب، الحب الخالد والإنساني، الحب الذي يمكن التضحية في سبيله بكل شيء، الحب الذي يعصف بالأفئدة ويأخذ باللباب ويأسر الروح ويجعلها أسيرة للواعج والتهجدات والمناغاة العشقية. هذا ما تجسده الرواية بصفحاتها القليلة التي لا تتعدى التسعين صفحة والصادرة هذا العام، بترجمة هافال يوسف عن دار «الساقي» في بيروت.
الجندي العائد
الشخصيات المركزية في الرواية قليلة، تتألف من جميلة وهي الشخصية الأساسية في الرواية ومن دانيار العاشق والمحب والجندي العائد إلى القرية، بعد إصابته في ساقه أثناء القتال في الحرب العالمية الثانية، ومن سعيد الفتى الذي لا يتعدى الثالثة عشرة. وهناك بعض الشخصيات الثانوية المرئية وغير المرئية مثل زوج جميلة صادق الجندي المحارب على الجبهة والمصاب أيضاً في الحرب ولكنه رقيد المستشفى العسكري للعلاج جراء إصابته أثناء القتال. كانت السنة الثالثة للحرب وكان الجميع يساق إلى الجبهة خصوصاً من كانت سنه تتجاوز الثامنة عشرة، فتبقى النساء والفتيان الذين سيُلقى عليهم العبء الأكبر للعمل في الكولخوزات والسوفخوزات، أي في الحقول والسهوب المنتشرة التي توفر عبر زراعة الحبوب، الغذاء والخبز للمحاربين والمقاتلين في الجبهات الحربية البعيدة.
كان دانيار وجميلة وسعيد وغيرهم يعملون في الكولخوز، وهي جمعية تعاونية زراعية ينشئها الفلاحون في ما بينهم بدعم من الدولة، أما السوفخوز فهي جمعية تنشئها الدولة ويعمل فيها الفلاحون كزراعيين.
في هذا الجو القروي شبه البدوي، يبدأ الحصاد وتقام الخيام وتشتعل النيران وهي تتغذى من قش الحصاد والشيح وأوراق الحور.
زمن الرواية هو نهاية فصل الصيف إبان الحرب العالمية الثانية، الصيف الذاهب باتجاه الخريف الذي تبقّى له خيط من حرارة الصيف ودفئه الجميل الذي يمتد ليشمل الحقول والكائنات الجامدة والحية، ويضفي على طابع الحصاد في الحقول النضارة والبهجة والحيوية من أجل تقديم المزيد من العمل. أما مكان الرواية إذا فهو سُهْب قرغيزيا التي تتاخم السهول والسهوب والهضاب المتوارية وراء الآفاق الكازاخستانية. أنها القرية الصغيرة، قرية عائلة كبيرة سكنتْ في بيتين متجاورين لإخوة تزوجوا وأنجبوا في هذا المكان. الإخوة عديدون وبعيدون وضائعون في متاهة الجبهات الكثيرة للحرب العالمية الثانية. الأب يعمل نجاراً ويذهب إلى منجرته منذ الصباح ولا يعود إلا مساء، والأم في البيت، هي وزوجة صادق أحد أبنائها الغائبين. وثمة نساء أخريات لأبنائها وجيرانها يلتقين ويحكين ويسردن القصص في أوقات فراغهن، عن الحرب والقتلى والعائدين والجرحى. وتظل الأم هي الأساس في هذا الأفق القروي من العمل الدائب واليومي، لكنّ عينيها تظلان ترنوان إلى الأفق البعيد محاكيتين السراب والمدى الغامض علهما يعودان بأحد الأبناء الذين طال انتظارهم في الجبهة.
وسط هذه الأحوال المتواترة والمشحونة بأجواء الترقّب والانتظار، تواصل جميلة عملها اليومي الصعب والشاق، مترقبة عودة زوجها أيضاً، ولكن من دون جدوى. وحدها الرسائل كانت تصل إلى العائلة من جبهة القتال، وفي نهاية كل رسالة سلام إليها، من دون كلمة حب واحدة. حتى في الرسائل الخاصة التي تصل إليها من دون العائلة كان يتحدث عن الحرب وشؤونها وعن أيامه في الجبهات هناك، مستذكراً البيت والعائلة، الأب والأم والأخت الصغرى ذات الأنف الأفطس والجدائل الطويلة. تلك الشخصية الضاحكة والخفيفة الدم هي التي تسلي بحضورها وحدة الأم وهمومها الكثيرة التي تشغل حيزاً من تفكيرها وخصوصاً غياب الأبناء.
أما جميلة وهي الشخصية الأساسية التي تتمحور حولها الرواية، فهي فتاة مرحة، مفعمة بالنشاط والحيوية، جمالها لافت وأخاذ وقامتها فارعة وممشوقة، وقوامها واثب، قوي، ومشدود. ومن هنا فهي قادرة على العمل ليل نهار بلا تعب وكلال، فهي تحزم القش وتذرّي الحصاد وتنقل الأكياس إلى العربة.
قوة هذه الرواية الصغيرة، هي في كثافتها اللــغوية ومعمارها الجمالي الدائري، الذي يبدأ من نقطة معيّنة في مطلع الرواية تكون هي النهاية، تبدأ بجميلة تلك الفتاة الجذابة وتنتهي بها. بيد أن السمة الأبرز في الرواية هي الحب، الحب بكل تجلياته، الحب الذي يجعلك تتخلى عن كل شيء من أجله، وتضحّي بكل ما تملك فدى له، فدىً للقاء والاستمرار الوجود للعاشقين والعناق القلبي. لذا يبدو كل شيء في الرواية متعلقاً بجميلة فهي المحور، والمركز واللولب الذي يقوم عليه العمل.
بهلول القرية
أما دانيار، فهو رجل مقطوع من شجرة كما يقال، بهلول القرية، شخص تائه يجد في جميلة ضالته، صامت، طوال الوقت، فقط يُحدّق ويعمل ويتفانى، وإن تحدث فليجيب أحدهم بما قل من الكلام. وحتى جعل منه هذا الصمت والحنو على العمل، مداراً للسخرية في القرية، لكونه درويشاً، ليس له من حيلة، سوى الصمت والتأمل ومراقبة الأفق البعيد، حيث القطارات الذاهبة باتجاهات بعيدة عن هذا المكان. في المحصلة إنه رجل غامض، حتى جميلة تتخذ من شخصيته مادة للسخرية، ولكن من دون أن تجرح مشاعره أو تنال من شخصيته المسكينة، المهلهلة الثياب، غير المهندمة، كما يرسمها الكاتب في مستهل عمله. ولكن ما أن يتوغل القارئ في الرواية شيئاً فشيئاً حتى تتكشف قوة شخصيته وما يحيط بها من قوى كامنة فيها. وهذا سيتضح في كشف الطاقات الكامنة في جسده فضلاً عن قوة عضله، يضاف إليها قوة صوته الذي لم يكن ينبس به في السابق، هذا الصوت الذي جعله يكون الشخصية المميزة والآسرة على طول الصفحات الأخيرة للرواية. يأتي ذلك عبر ما يملك من حنان ورخامة وموهبة في طبقات صوته الغنائية التي راح يكشف عنها بالتدريج على بيادر الحصاد، وإلى جانبه سعيد ودانيار وجميلة. في تلك المساءات العذبة، كان صوت دانيار ينطلق ليجعل الأرض تتمايل طرباً والأشجار معها والطيور. ذلكم ما كان يرويه الراوي، وهو سعيد الصبي، بطريقة فاتنة، يتدرج فيها من حبه العذري لزوجة أخيه، وغيرته عليها من الغرباء والعيون التي تلاحقها في سكناتها وحركاتها، وتتمنى النيل من جسدها وجمالها وفتنتها ودلعها، إلى الاستسلام لتطلعات دانيار الذي رأى فيه المحب والعاشق الحقيقي الذي يستأهل الاستئثار بجمالها. هذا ما كان يراه الصبي سعيد في زوجة أخيه التي راحت تميل إلى دانيار رويداً رويداً وبصمت يشبه صمت دانيار، وهو الفتى الموهوب بالرسم والحالم بدراسته أكاديمياً.
ويبدو أن هذا الكائن الغريب هو ما كانت تنتظره جميلة، التي وقعت بغرام الصوت قبل الجسد، وقعت بغرام الحنان الموجود في الصوت. كان دانيار يحب جميلة بكل جوارحه، عبر لغة العيون التي كانت كانت تصل رسائلها إلى جميلة على شكل نظرات ملغزة ودالة، تلك التي كان يرمي بها دانيار تجاهها في كل حركة ونأمة وإطلالة تند عنها. وكان سعيد يعي ذلك الحب الخفي الذي كان يدفعه للغيرة أحياناً عليها لكونه الحامي، وأحد أفراد العائلة، لكونه أخاً لزوجها، وكان يحبها هو كذلك حباً جماً.
وحين تتنامى العلاقة بين جميلة ودانيار يبتعد سعيد عن الغيرة التي كانت تتملكه، لكون جميلة هي زوجة أخيه صادق، فيتعلق من دون وعي منه بطيبة دانيار وجمال صوته الذي حفّزه على استعادة موهبة الرسم النائمة في داخله، مما يدفع به في أحد المساءات أن يرسم لوحته الزيتية وهي تمثل التصاق جميلة بدانيار في الحقل وهما جالسان في استراحة ما. رسم رأس جميلة بشالها الأبيض الخفيف وجديلتيها وهما تتدليان على كتف دانيار. صورة جعلت منه خائناً في نظر أخيه حين عاد من الجبهة ورأى الصورة التي جسدها سعيد بعد غياب زوجته وفرارها مع دانيار من القرية باتجاه محطة القطارات، باتجاه الأفق البعيد.
حقاً إنها «أجمل قصة حب في العالم»، كما قال عنها الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون ذات يوم.