يحاول مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا، اجتراح حلول للأزمة السورية المغلقة، فبدأ أول عهده بترك المستوى السياسي الذي فشل فشلاً ذريعاً مع خلفه الأخضر الإبراهيمي في مؤتمر «جنيف 2»، والانتقال إلى المستوى الميداني باقتراح وقف إطلاق للنار يبدأ في نقطة معينة (حلب)، ثم تعميمه إلى مناطق أخرى إن أمكن، كمقدّمة من شأنها أن تمهّد الطريق لمناقشة القضايا السياسية لاحقاً.
غير أن فشل المبادرة دفع دي ميستورا إلى تطوير مبادرته بجمع المستويين الميداني والسياسي معاً، وقام لأجل ذلك بجولات مكوكية خلال الأشهر الماضية، شملت عواصم إقليمية ودولية، فضلاً عن لقاءاته المتعددة مع النظام والمعارضة.
يقدم الرجل هذه المرة، مقترحاً يتضمن دعوة الأطراف السورية إلى محادثات متوازية أو متزامنة، عبر مجموعات عمل دولية وإقليمية تبحث مختلف قضايا المرحلة الانتقالية (الأمن، الإرهاب، السياسة)، يقابلها انتقال منظّم للحكم على مراحل بدلاً من مرحلة انتقالية واحدة أثبتت الأحداث فشلها في سوريا وليبيا والعراق.
بيد أن مقترح دي ميستورا سيلاقي مصير مقترحه السابق ومحاولات سابقيه الإبراهيمي وأنان، فالمسألة السورية لا تزال بعد خمس سنوات، محلّ اختلاف إقليمي ودولي عميق لم ينكره الرجل حين أعلن غياب التوافق الدولي حول بيان أو عقد مفاوضات رسمية جديدة بين أطراف الأزمة السورية.
ثم إن النظام السوري ما زال يرفض أي حل سياسي للأزمة، ويجد في محاربة الإرهاب ومخاوف المجتمع الدولي حجّة للهروب من الاستحقاقات السياسية، وليس أدلّ على ذلك ما أعلنه بشار الجعفري بعد انتهاء جلسة مجلس الأمن (محاربة الإرهاب تعتبر ضرورة وأولوية بالنسبة الى سوريـة، وإذا لم يـتم التعامل مع الإرهــاب كما يجب فلن تصبح العمليات والمسارات الأخرى مهمة)، وما أعلنه وليد المعلم قبل ذلك من أن دمـشق تـرفـض الدعـوة الى «جنيف 3» مقـابل دعمه عقــد «مــوسكو 3» الذي يعتمد مخرجات منتدي موسكو 1 و2 (محاربة الإرهاب).
وعليه، سيجد دي ميستورا نفسه في الفخّ الذي وقع فيه الإبراهيمي العام الماضي أثناء مؤتمر «جنيف 2»، حين أصرّ النظام على تطبيق بيان «جنيف 1» وفق تسلسله، أي البدء بمحاربة العنف والانتهاء منه ثم الانتقال إلى المستوى السياسي، وهذا طرح تعجيزي غير قابل للتطبيق، ويعكس رفض النظام أية تسوية قد تؤدي مستقبلاً إلى استبعاده من السلطة.
كما أن التطورات الميدانية التي جرت منذ ديسمبر (كانون الأول)، لصالح المعارضة المسلّحة مع سيطرة الفصائل المسلّحة على وادي الضيف، وما لحقها من تطورات إدلب في الشمال والقنيطرة ودرعا في الجنوب، قد عقّدت الحل السياسي أكثر مما حركته.
المعارضة المسلّحة والائتلاف رفعا من مستوى خطابهما برفضهما أية مرحلة انتقالية لا تستبعد الأسد، في استثمار سياسي للتطورات الميدانية، أما النظام الذي بدأ يعاني من ضعف واضح في المرحلة الأخيرة، فقد اتجه نحو التشدّد أكثر مما سبق، وليس مصادفة أن يتم الإعلان عن لاءاته الأربعة في الوقت الذي يشهد انتكاسات ميدانية واضحة: لا إعادة تشكيل للأجهزة الأمنية، لا إعادة لهيكلية الجيش، لا لأي تنازل من صلاحيات منصب الرئيس، لا تعديل في الدستور الحالي.
يحاول الطرفان تحقيق إنجازات ميدانية على الأرض قبيل الدخول في المفاوضات، وهذا ما يفسّر رفض الأطراف السورية جميعها جهود الأمم المتحدة لعقد «جنيف 3»، وفق ما أعلن دي ميستورا نفسه أمام مجلس الأمن.
والمفارقة الثانية، أن مؤتمرات المعارضة التي جرت في موسكو والقاهرة ودمشق وكازاخستان، لم تكن في صدد البحث عن حلول سياسية، بقدر ما كانت اصطفافات غايتها تثبيت الرؤى والمواقف للأطراف السورية وداعميها الإقليميين والدوليين، استعداداً لفرضها على أية مفاوضات مستقبلية.
لقد كشفت كلمة دي ميستورا أمام مجلس الأمن، فشله في الإتيان بجديد حول سورية، فالرجل لم يطرح حلولاً ولا مقدمات للحل، وإنما حاول تدوير الزوايا وإدخال فاعلين إقليميين في لعبة المفاوضات كانوا حتى الأمس القريب مستبعدين منها، وحتى الجديد الذي جاء به (مجموعة اتصال دولية خاصة بسورية) لن يخرج عن إطار محاولة المجتمع الدولي إدارة الأزمة لا حلّها.