رحيل حفّار الوجوه المضطربة مروان قصاب باشي

في منفاه البرليني حيث يعيش منذ 50 سنة، رحل الفنان الدمشقي مروان قصاب باشي، أحد الوجوه الطليعية في ألمانيا خلال ستينات القرن العشرين، وأحد المؤسسين لحركة الفنون التشكيلية الحديثة، عن 83 سنة. وكان يعتبر أن «الفن العظيم دائماً مجرّد».

في لوحته الأخيرة التي رسمها عندما أتمّ الثمانين من العمر أي في 2014 وعرضتها غاليري «صفير – زملر» في هامبورغ في آب (أغسطس) الماضي، اختصر مروان قصاب باشي رحلته في الحياة وتخبطاته ونجاحاته وما مرّ به من يأس وفرح ونجاح باهر ملأ أهم صالات العام سحراً ومتاحفها، في وجه يميل إلى الألوان الداكنة من الرمادي الأسود إلى الأزرق والبني ليقابل هذا في الجهة اليسرى من العمل اللون البيج. ربما كان هذا الوجه عصارة لوجوه مضطربة قاسية، حفرها مروان قصاب باشي في ذاكرتنا وهزّت وجداننا وحرّكت مشاعرنا. ربما جمع فيه فيسفساء كل الوجوه التي وصفها في رسومه الدقيقة التجريدية للأجواء والمشاعر والتوترات النفسية. إنه وجه حضاراتنا المعاصرة المشوّهة المجبول تاريخها بالدم.

أعماله الخالدة التي جالت العالم، أثّرت في عدد كبير من الفنانين العرب والأوروبيين الشباب، لتصبح مدرسة في الفن العربي المعاصر. فقبل أربع سنوات، دخلت هذه الأعمال التاريخ بعدما اعترفت بها متاحف عالمية مهمة واقتنت جزءاً منها لتضمها الى مجموعاتها التاريخية، مثل «متحف شيكاغو»، و«تايت مودرن» في لندن، والمتاحف الألمانية، و«متحف غوغنهايم» في نيويورك. ويقول مقرّبون من قصاب باشي، إنه انتظر وقتاً طويلاً حتى يأتيه هذا الاعتراف ويرى التقدير الذي يستحقّه قبل أن يرحل.

إعلان

الوجه هو الموضوع الأثير الذي اشتغل عليه الفنان الكبير. منذ عام 1964، بدأ ينفذ تشكيلات أولية لوجوه شعراء ومفكرين عرب، مثل منيف الرزاز والسياب. وبعد سنوات، أنجز تغييراً كبيراً في أسلوبه أقرب إلى التجريد، أصبح مميزاً له. كان يعتمد وجهه هو أساساً، ليبدع لوحاته عليه. وكان الوجه يحتل تقريباً كل مساحة اللوحة. كان هذا التغيير قد بدأ في منتصف الثمانينات.

استقر في برلين منذ عام 1957 ودرس الفن هناك بين 1957 و 1963. وقبل أن يهاجر الى ألمانيا، درس قصاب باشي في كلية الآداب في دمشق التي حمل همّها في كل لون خطّه في رسومه وبقي طيفها القاسي المجبول بالحنين والانكسار يرافق أعماله الرائدة.

على رغم اندماجه في حياة برلين، ظلت أعماله تتأرجح بين عالمين حيث يظهر توتر بين الشكل والعاطفة، وبين التجربة الداخلية للواقع وذلك المعاش من العالم الخارجي.

باستثناء محاولاته الدمشقية الأولى، مرّ مروان في ثلاث مراحل، الأولى تشخيصية امتدت بين عامي 1966 و1970، يقدم أفراداً معزولين أو أزواجاً في مساحة فارغة وباردة، في أوضاع غريبة تعبر عن الوحدة الروحية للكائن الإنساني. وابتداءً من عام 1970 وحتى بداية ثمانينات القرن العشرين، وبعد مرحلة قصيرة كانت مخصصة للطبيعة الصامتة، اتخذ كنموذج له الدمية التي كان يحركها بحرية. وفي هذه الفترة، بدأ محاولاته في رسم وجهه. ابتداء من العام 1980، رسم وجوهاً أصبحت مشهداً طبيعياً. تظهر هذه المرحلة حساسية خفية ومكوِّنة من جهة أخرى دخوله إلى التجريدية.

واليوم صارت لوحاته التعبيرية الغريبة التي تطرح قضايا فلسفية وجودية تتعلق بالانتماء والطبيعة والإنسان وطبقات الأرض المتراصة والتاريخ، مرآة لوجوهنا كلنا.

+ -
.