(كانت خلاصة رسالة البابا فرنسيس للشعب الفلسطيني هي أن المفاوضات مع الاحتلال ودولته، وعدم الإقدام على خطوات من جانب واحد، والامتناع عن المقاومة ب”العنف”، والاعتراف بإسرائيل كأمر واقع هي “الطريق الوحيد إلى السلام”)
بقلم نقولا ناصر*
وصل البابا فرنسيس إلى الأراضي المقدسة في فلسطين قبل ثلاثة أيام من احتفال دولة الاحتلال الإسرائيلي بالذكرى السنوية السابعة والأربعين لضم المقدسات المسيحية والإسلامية في شرقي القدس وبعد عشرة أيام من إحياء الفلسطينيين للذكرى السنوية السادسة والستين للنكبة الفلسطينية.
لقد دعا البابا خلال “حجّه” إلى “حل عادل” للصراع في فلسطين، وإلى “سلام مستقر على أساس العدل”، وطار من الأردن مباشرة إلى بيت لحم ليدخل “دولة فلسطين” ويقابل “رئيس دولة فلسطين”، كما قال وجاء في البرنامج المعلن لزيارته، من بوابة غير إسرائيلية، في دعوة رمزية صريحة إلى إنهاء احتلال عام 1967، وأعلن عن وجوب “الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في وطن ذي سيادة وبحقه في العيش بكرامة وحرية حركة”، وخرج على البرنامج المقرر لزيارته للتوقف والصلاة عند جدار الضم والتوسع في بيت لحم في مبادرة جريئة دلالاتها غنية عن البيان.
لكن البابا لم يجد ما يقوله في المناسبيتن، فهو والكرسي الرسولي الذي يشغله ليس لهما رأي وليس في وسعهما ما يفعلانه للشعب الفلسطيني سوى الصلاة من أجل رفع المعاناة عنه، لأن “الإجراءات الملموسة للسلام يجب أن تأتي من المفاوضات”، فهذا هو “الطريق الوحيد إلى السلام”، كما قال الحبر الأعظم للصحفيين المرافقين له في رحلة طيران عودته إلى روما.
في السادس والعشرين من هذا الشهر وصف موقع “الكاثوليكي أونلاين” سياسة الفاتيكان هذه بأنها “دبلوماسية الايمان”.
وكانت هذه هي رسالة البابا الأساسية للشعب الفلسطيني، وهذه هي على وجه التحديد الرسالة الأميركية – الإسرائيلية لهم، فخلاصهم من الاحتلال ليس في يد الفاتيكان أو الولايات المتحدة، التي ترعى مفاوضاتهم معه منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، بل يكمن خلاصهم في استمرار ارتهانهم لتفاوضهم الثنائي مع الاحتلال فقط.
وكانت رسالته الثانية لهم في خدمة رسالته الأساسية، فقد حثهم على “الامتناع عن القيام بمبادرات وأفعال تتناقض مع الرغبة المعلنة في التوصل إلى اتفاق حقيقي” أي الامتناع عن القيام بخطوات من جانب واحد، وهذه أيضا رسالة تكرر دولة الاحتلال وراعيها الأميركي توجيهها لمفاوض منظمة التحرير الفلسطينية كي يلتزم بها من جانب واحد من دون إلزام دولة الاحتلال بالتزام مماثل.
ولهذا الغرض وجه البابا دعوته للرئيس الفلسطيني محمود عباس للانضمام إلى رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس للصلاة معا من أجل السلام في “بيتي في الفاتيكان كمكان لاجتماع الصلاة هذا” في الثامن من حزيران/يونيو المقبل. ووصف المتحدث باسم البابا فدريكو لومباردي هذه الدعوة بأنها “مبادرة سلام بابوية”. فكانت هذه رسالة البابا الثالثة للشعب الفلسطيني.
وتمثلت رسالته الرابعة لهم بباقة الورود التي وضعها على قبر مؤسس الحركة الصهيونية في القدس المحتلة ثيودور هيرتزل، الملحد الذي كان يؤمن بالرغم من ذلك ب”وعد” الرب ل”شعبه المختار” بأن تكون فلسطين وقفا يهوديا له، في سابقة بابوية تاريخية امتنع عنها البابوات الثلاث الذين سبقوه في “الحج” إلى المقدسات المسيحية، بعد مرور مائة وعشرة أعوام على رفض البابا بيوس العاشر دعوة هيرتزل له للموافقة على إقامة دولة يهودية في فلسطين.
إن إضفاء شرعية الفاتيكان على هيرتزل هي شرعنة ومباركة لمشروعه الاستعماري الاستيطاني في فلسطين والنكبة الفلسطينية التي تمخضت عنه ورسالة بابوبة تعترف بالأمر الواقع الراهن القائم على الظلم والعدوان والاغتصاب وتدعو الشعب الفلسطيني إلى اعتراف مماثل بهذا “الأمر الواقع”.
وبعث البابا فرنسيس برسالة خامسة إلى الشعب الفلسطيني عندما خاطب أطفال اللاجئين الفلسطينيين من مخيم الدهيشة في بيت لحم قائلا: “لا تسمحوا أبدا للماضي بأن يقرر حياتكم، انظروا إلى المستقبل دائما.” إنها الدعوة الأميركية – الإسرائيلية المكررة إلى نسيان النكبة الفلسطينية والتطلع من مخيمات اللجوء إلى مستقبل مجهول في المنافي والشتات.
وفي المناسبة ذاتها وجه رسالته السادسة لهم عندما خاطبهم قائلا: “لا يمكن هزيمة العنف بالعنف. فالعنف يمكن هزيمته بالسلام فقط”. إنها الدعوة الأميركية – الإسرائيلية ذاتها لتخلي الشعب الفلسطيني عن مقاومة الاحتلال وعنفه بكل أشكال المقاومة التي يجيزها القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرائع السماوية ومنها المسيحية.
فالسيد المسيح وهو رسول السلام والمحبة حد أن يحث المؤمنين بأن “أحبوا أعداءكم” لم يمنعه غضبه من “المرائين” بين الحق وبين الباطل من أن يلعنهم واصفا إياهم ب”الحيّات وأولاد الأفاعي”، ومن تحويل بعض الحبال إلى سوط ينهال فيه على الباعة والصيارفة فيقلب موائدهم وينثر دراهمهم ويطردهم من “الهيكل” لأنهم حولوا بيتا للعبادة إلى بيت للتجارة، فلم يلجأ إلى مقاومتهم “بالسلام” كما ينصح البابا الآن للتعامل مع من انتهكوا حرمة بيوت العبادة المسيحية والإسلامية في فلسطين.
إن صلاة البابا في متحف الهولوكوست وحائط البراق ونصب ضحايا مقاومة الاحتلال وزيارته لرئيس دولة الاحتلال بمقر إقامته حيث صلى “من أجل مؤسسات دولة إسرائيل” المسؤولة عن اغتصاب فلسطين واحتلالها واستقباله رئيس وزرائها ينيامين نتنياهو في مجمع فندق النوتردام هي نشاطات بابوية جرت جميعها في القدس التي ضمتها دولة الاحتلال وأعلنتها عاصمة “أبدية” لها.
وهي نشاطات حملت مباركة الكرسي البابوي لكل الرموز الصهيونية التي تسوقها دولة الاحتلال كمسوغات لإدعاءاتها في الأراضي المقدسة والقدس ولاستمرار احتلالها وعدم مسؤوليتها عن النكبة الفلسطينية، ليذكر بسلفه البابا بنديكتوس خلال حجه المماثل عندما “شكر الله” لأن “اليهود عادوا إلى أرض أجدادهم”. وهذه رسالة بابوية سابعة لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يمر عليها مرور الكرام.
وكانت رسالته الثامنة حول القدس التي دعا إلى “وجوب” حل قضيتها “عن طريق التفاوض … بروح من الأخوة والثقة المتبادلة” بين الجلاد وبين الضحية فيها “لأنني لا أعدّ نفسي مؤهلا للقول إنه ينبغي عمل شيء أو آخر” بشأنها، ليكتب روفن بركو في “إسرائيل هايوم” العبرية إن لقاءات البابا فيها مع بيريز ونتنياهو هي “تعبير أمر واقع عن اعتراف الفاتيكان بالقدس عاصمة لإسرائيل”.
لقد كان لافتا أن لا ترد كلمة “الاحتلال” في أكثر من ثلاثة عشر خطابا للبابا طوال ثلاثة أيام استغرقها “حجه”، ولم ترد فيها كذلك أي إشارة إلى معاناة المحاصرين في قطاع غزة، أو إلى الجليل حيث يوجد أكبر تجمع للمسيحيين الذين تستهدفهم دولة الاحتلال اليوم بالتجنيد الإجباري في جيشها، أو إلى معاناة المقدسيين في “ضاحية السلام” ومخيم شعفاط وعدة أحياء أخرى عزلها مضيفوه المحتلون للقدس عن المدينة المقدسة بجدار الضم والتوسع وقطعوا عنها كل الخدمات حتى المياه.
في الثالث والعشرين من الشهر الجاري قال ابراهام فوكسمان، رئيس رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأميركية، إن “الأهمية الأكبر” لزيارة البابا “تكمن في حقيقة أنها تعكس تطبيع العلاقات بين الفاتيكان وبين دولة إسرائيل”.
ومنذ برّأ مجلس الفاتيكان الثاني اليهود من دم المسيح في ستينيات القرن العشرين الماضي تسارع “تطبيع” هذه العلاقات ليقول الحاخام ديفيد روزن مدير العلاقات بين الأديان في اللجنة اليهودية الأميركية في السادس والعشرين من هذا الشهر إن “ثورة قد حدثت في (علاقة) العالم المسيحي” مع اليهود.
إن “دبلوماسية الايمان” التي قادت البابا فرنسيس إلى “الحياد” بين دولة الاحتلال وبين ضحاياه قد حولته إلى محايد بين الحق وبين الباطل، وبين الخير وبين الشر، وبين العدل وبين الظلم، وبين الاحتلال وبين السلام، وهذه ثنائيات متناقضة ليس مقبولا الحياد بينها خصوصا من جانب قوة روحية بوزن من يشغل الكرسي الرسولي في الفاتيكان. إن حيادا كهذا يفتقد بالتأكيد “العدل” الذي دعا البابا إلى حل الصراع على أساسه.
منذ نهاية حروب الفرنجة (الصليبية) في القرن الثاني عشر الميلادي لم يقم أي من بابوات روما ب”الحج” إلى القدس حتى زارها البابا بولس السادس عام 1964 وهي تحت الحكم الأردني ليلحق به بعد ستة وثلاثين سنة البابا يوحنا بولس ثم البابا بنديكيت عام 2009 وأخيرا البابا فرنسيس.
ومنذ ذلك الحين أيضا لم يكن للكنسية الكاثوليكية وجود في المنطقة بسبب مباركتها لتلك الحروب وقد عادت إليها فقط في أواخر الخلافة العثمانية وبداية الاستعمار الأوروبي للوطن العربي الذي لم ينقطع فيه أبدا وجود الكنائس العربية والوطنية الشرقية بسبب وقوفها مع العرب والمسلمين في الدفاع عنه ضد حروب الفرنجة عليه.
إن تقليد الحج البابوي إلى الأراضي المسيحية المقدسة في فلسطين منذ عام 1946 لم ينجح حتى الآن في تبديد الحقيقة التاريخية الكامنة في الذاكرة العربية منذ حروب الفرنجة بأن البابوية “ما زالت مرتبطة بالحروب الصليبية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر” عندما كانت صلة البابوات بالأراضي المقدسة صلة عسكرية فقط كما كتب المحرر الدولي ل”إن بي آر. أورغ” غريغ ماير في الرابع والعشرين من أيار/مايو، ليتساءل المراقب العربي، مسيحيا ومسلما على حد سواء، عن السبب في انقطاع تلك “الصلة العسكرية” للفاتيكان مع القدس وبيت لحم وفي أن “تحرير” مهد السيد المسيح وقبره لم يعد هدفا للفاتيكان بعد الاحتلال العسكري الإسرائيلي لهما.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com