نسجاً على منوال الجملة الاستهلالية الشهيرة في «المانفيستو الشيوعي» عام 1848، التي يقول فيها ماركس وإنجلز «إن شبحاً يخيم على أوروبا (ويفزعها) هو شبح الشيوعية»، يمكن القول الآن، في ضوء نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، إن «شبح بوتين» يخيم على أوروبا. فمنذ توليه الرئاسة رسمياً في آذار (مارس) 2000، عمد بوتين إلى تغذية الشعور القومي في الداخل، والسعي لاستعادة «الأمة الروسية» عظمتها وهيبتها ومكانتها على الساحة الدولية، ونبذ الإحساس بالهزيمة الذي تفشى في المجتمع الروسي في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن طوال التسعينات الماضية على أثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، الذي اعتبره بوتين، في خطاب للأمة في نيسان (أبريل) عام 2005، «أكبر كارثة جيو- سياسية في القرن العشرين».
بعد عودته لتولي الرئاسة في أيار (مايو) 2012، بدأ بوتين تنفيذ خطة إعلامية وسياسية تهدف الى وضع أسس لـ «أيديولوجية روسية» جديدة تحل محل الأيديولوجية السوفياتية (الشيوعية). ففي الرسالة السنوية التي ألقاها في 12 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أمام مجلسي الدوما، حدد بوتين للمرة الأولى، هوية روسيا الجديدة كـ «قوة محافظة تعمل على الدفاع عن القيم الأخلاقية للمجتمع وتستند إلى القوانين الدولية والوطنية التي تصونها»، وتتبنى نصوص القوانين الوطنية والدولية في ما يتعلق بمسألتي «السيادة» و «رفض التدخل الخارجي في شؤون الدول» وصولاً إلى قضايا مثل «مشكلة الأقليات القومية» و «المثليين» ومحاربة تصدير «الثقافات الغريبة».
وهذه الخطة (الأيديولوجية) أو «الأممية الروسية الجديدة»، على حد تعبير جميل مطر في مقال له في صحيفة «الشروق» القاهرية في 26 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تسير على خطين متوازيين، خط داخلي وخط خارجي: داخلياً، تنشط الأجهزة الحكومية والموالية للرئيس العاملة في قطاعي الإعلام والسياسة لبث الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية. وتدعو أيضاً إلى التمسك بالقيم الأخلاقية والتخلص من السلبيات كافة التي جلبها الشعور بالهزيمة في الحرب الباردة التي نشبت بين روسيا والغرب. وتُنفّذ الخطة برعاية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، باعتبارها المظلة التي يجري في ظلها بناء هذه الأيديولوجية الجديدة، وهي المظلة التي يعود إليها الفضل في المحافظة على «وحدة الشعوب السلافية ونقاء الدين المسيحي»، وخارجياً، التركيز على أن أوروبا الغربية تتحلل أخلاقياً وسياسياً. فمجتمعات أوروبا كما تراها الأيديولوجية الروسية الجديدة، تمر تاريخياً بمرحلة «ما بعد المسيحية» و «ما بعد سيادة الدولة» و «ما بعد القيم الأخلاقية».
وفي المقابل، تتضمن الخطة/الأيديولوجية الروسية الجديدة أفكاراً محددة مثل النية في تنظيم حوار حضارات تطرح موسكو من خلاله رؤيتها لدور الأخلاق والدين في المجتمع العصري، وتدشين قنوات تلفزيونية بلغات أجنبية تخاطب الخارج، بخاصة أوروبا الغربية، ودعوة علماء اجتماع من دول الغرب للتدريس في جامعات روسيا والتشبع بأساليب حياة الشعب الروسي. إذ يسعى بوتين في الأساس إلى أن تكون موسكو «مركزاً للقيم» ومقراً لتنظيم أممي يبشر بأفكار يمينية وقومية، ويدعو حكومات العالم إلى تأكيد التزامها حماية التراث الثقافي والأخلاقي لشعوبها وأساليب حياتها والمحافظة على أنماط تدينها. بمعنى آخر يقيم تنظيماً أممياً تتجمع فيه التيارات اليمينية والمحافظة التي تدعو إلى الحد من ظاهرة انفراط المجتمعات وتحللها أخلاقياً تحت عناوين التعددية الثقافية والتحرر الاجتماعي والمساواة الكاملة.
وعلى ما يبدو، فإن «الأممية الروسية الجديدة» باتت تحقق نجاحاً ملحوظاً، إذ تكشف انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة عن صعود لافت لقوى اليمين المتطرف، بحصولها على رُبع عدد مقاعد البرلمان المقبل، وهي اكتسبت شعبيتها وبنت مواقفها، ليس فقط على «كراهية الأجانب» و «معاداة المهاجرين»، لا سيما من العرب والمسلمين، بل من معاداتها أصلاً لفكرة الاتحاد الأوروبي، الذي تعتبره السبب في تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الشعوب الأوروبية.
وهذا النجاح أو التأثير الروسي في تلك الانتخابات جاء عبر «مفارقة» كبيرة، سواء بالعدوى منها أو بالعداء لها، ففي غرب أوروبا تحقق هذا «التأثر» بالأيديولوجية الروسية الجديدة عبر ما يمكن تسميته «إغراء بوتين» لهذه الأحزاب اليمينية المتطرفة؛ فبوتين يجمع بين المحافظة الثقافية واعتقاد قوي في سيادة الدولة. وهذه الأحزاب ومؤيدوها لا تخفي إعجابها بالطريقة التي تحدى بها الزعيم الروسي الغرب بعد تفجر الأزمة الأوكرانية.
أما في شرق أوروبا، وعلى العكس من «إغراء بوتين»، فهناك أيضاً «هاجس بوتين» للناخبين في معظم تلك المنطقة، الذين يعد انتماؤهم إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي ضمانة لأمنهم، ولم يصوتوا لمصلحة التيار المشكك في جدوى الوحدة الأوروبية الذي يغلب في غرب القارة. ويشكل ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية أخيراً والحشود العسكرية الروسية في «كالينينغراد»، الجيب الروسي المطل على بحر البلطيق والواقع بين بولندا وليتوانيا، مصدر قلق لبلدان تلك المنطقة التي كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق قبل ربع قرن.
ومن المؤكد أن الأيديولوجية القومية (الأممية الروسية الجديدة) ليست الحل لأوروبا. فقد تحولت القومية إلى نزعة شوفينية وعنصرية سامة في أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكانت النازية والفاشية أعلى مراحلها، ما أدى إلى حربين عالميتين مدمرتين، عانت منهما روسيا كثيراً، فهل يعيد «شبح بوتين» الجديد أوروبا إلى أشباح هتلر وموسوليني وستالين البغيضة؟ وهو الذي يدّعي محاربة الفاشية والنازية الجديدة في شرق أوكرانيا، ويدشن الاحتفالات بالنصر على القديمتين منهما.
_________________________________
* كاتب مصري