مُــبـــكّراً أدرك محمد توفيق البجيرمي أهمية التلفـــزيون وقــــدرته الاتصاليـــة والإعلاميــة، فلم يتردّد في التعامل مع هذه الوسيلة السمعية البصرية، في وقت كان يأنف الأكاديميون منها، ويتعالون على الخوض في مجالها. ربما هذا الوعي المّبكّر هو ما جعل البجيرمي يقدّم برنامجه الأول، «نافذة على العالم»، عبر تلفزيون بغداد، بدءاً من العام 1962، وحتى العام 1964، تماماً في الوقت الذي كان يدرس اللغة الإنكليزية، وريثما ينتقل إلى «التلفزيون العربي السوري»، في مرحلة لاحقة، حيث سيقدّم برنامجه الشهير «طرائف من العالم»، أولاً في الفترة الممتدة من عام 1966 وحتى عام 1971، وتالياً منذ عام 1980، ليُشتهر به، ويرسخ اسمه في الإذهان.
يرحل محمد توفيق البجيرمي، قبيل رحيل العام 2013، عن عمر يُناهز 75 عاماً، قضاه مُوزَّعاً ما بين العمل الأكاديمي، أستاذاً جامعياً، يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، ويتولّى التدريس في جامعات بغداد ودمشق، من جهة، وممارساً لفعاليات متعددة كالكتابة والتأليف والترجمة، فضلاً عن حضوره على شاشة التلفزيون، مُقدماً للبرامج، وممثلاً في عدد من المسلسلات، من جهة أخرى.
سيبدو البجيرمي حالة خاصة. هذا رجل أمكن له أن ينسج علاقة خاصة مع طلابه الجامعيين الذين أحبوه، بشكل يعرفه كل من عايش الوسط الجامعي الدمشقي، خلال الربع الأخير من القرن العشرين، فمن الأكيد أنه سمع الكثير عن ظرافات البجيرمي وملائحه، فضلاً عن خبرته وثقافته وسعة إطلاعه. وهذا رجل لم تمنعه مكانته الأكاديمية العالية، من الخوض في عالم التلفزيون، ممثلاً منذ العام 1969 عندما قدّم دور «الجاحظ» في مسلسل شهير بعنوان «البخلاء»، وسيعود بعد قرابة ربع قرن لأداء دور «ابن عبد ربه الأندلسي» في أعمال مأخوذة عن «العقد الفريد».
عرف البجيرمي توظيف ملامحه في أداء أدواره التي توقفت في غالبيتها، عند حدود الشخصيات التراثية، تماماً كما عرف توظيف خامته الصوتية اللافتة، وقدرته البلاغية، وحُسن إتقانه للغة العربية بشكل مُتميز، في الأعمال الدرامية التي شارك بها، بينما استخدم ثقافته الواسعة، ومعرفته العميقة، ومعرفته باللغات الأجنبية، في التقاط اللطائف التي واظب على تقديمها في برنامجه الشهير «طرائف من العالم».
يرحل البجيرمي، وتبقى ترنّ في الأسماع عبارته الشهيرة: «تصوّر.. يا رعاك الله»، تلك التي استطاع تحويلها إلى أيقونة كلامية، تفيض عن البرنامج ذاته، لتتحوّل إلى لازمة يتداولها كثير من المشاهدين، في حياتهم اليومية، وهم يعلمون أن براءة اختراعها محفوظة للدكتور محمد توفيق البجيرمي الذي عرف أيضاً كيف يطوّع صوته بما يتناسب والمقال، بشكل متلوّن درامياً، يجذب المشاهد، ويؤثر فيه، ويمرر له المعلومة التي يريد بسلاسة وأناقة، مُحببتين.
يرحل البجيرمي، وقد ترك لنا مدرسته المميزة في التعامل مع التلفزيون، فأحسن الاستفادة منه، وبنى من خلاله علاقة خاصة مع المشاهدين، كباراً وصغاراً، متعلمين وأنصاف متعلمين، وحتى العوام.