ليس غريباً، بل من الذكاء، أن يبدأ المسلسل السوري «غداً نلتقي» المشهد الافتتاحي بفرقة دبكة فلسطينية يقودها «غيفارا» (جابر جوخدار) في مخيم للنازحين السوريين في لبنان. فغد الكاتب إياد أبو الشامات والمخرج رامي حنّا، يحمل قلق السوريين حول مآله، إلى جانب ذاكرة الأمس في تراجيديا اليوم، وأسئلة مرعبة. هل نواجه مصير فلسطين وأهلها في الشتات والوطن الضائع؟ هل أصبحنا أهل الداخل والخارج؟ إضافة إلى سبق هذا الخط في «دراما الأزمة»، بالإضاءة على محنة «الفلسطينيين السوريين» الذين يرزحون تحت سقف الويل عينه، ويبحثون أيضاً عن «فيزا» الخلاص.
وتستمر هذه الرمزية عن الإنسان الهارب الهائم على وجهه، بعد الواقعية التي تظهرها الصور المتعاقبة عن النازحين في الشارة، من خلال ظهور حافلة «أبو رياض» (فوزي بشارة)، «الميكرو» في التسمية السورية الشعبية، إلى جانب «الفانات» (في التسمية اللبنانية) الأخرى التي تتنقل بها شخصيات العمل، والمشاهد الخارجية الكثيرة على الطرقات، حتى تصل إلى ذروة سوريالية: عربة دفن الموتى تنقل أطفالاً يغنون، هل هو الموت يسير إلى الحياة أم العكس؟
ويضيف بعضهم هذا المشهد، إلى عدم محبة «وردة» (كاريس بشّار) لغناء السيدة فيروز ومشهد يسكت فيه «أبو رياض» الأطفال مخافة سماع أهل منطقة الأشرفية لهجتهم السوريّة، من أجل اتهام العمل بالعنصرية، من دون الانتباه إلى «يافطات العنصرية ضد السوريين» التي علقت في مناطق لبنانية، ومن دون احترام حرية الفرد بالرأي الشخصي في من وماذا يحب أو يكره، بخاصة أن «وردة» بررّت رأيها لاحقاً بأن فيروز تذكرها بوطنها الجريح. لكنّ العمل لم يبيّن حتى الآن، النصف الأخر من الكأس، فاختار العلاقة مع العنصريين من اللبنانيين فقط، وإن جعل النص من فيروز، يد الأمل اليتيمة التي تمسح على جبين كل هذا التشاؤم لاحقاً. وفي تناقض ملفت، يرى المشاهد أن رنة خليوي «وردة» هي أغنية فيروز «حكيلي عن بلدي». وفي العلاقة السورية اللبنانية أيضاً، تشّد الانتباه رمزية استعارة الشخصية المثقفة «محمود» (عبد المنعم عمايري) شعر يوسف الخال السوري المولد واللبناني الجنسية، بعد معاقرته الشراب في نموذج مستمد واقعاً من شباب سوري في حانات بيروت.
لكنّ هذا التناقض لا يخرج عن الحالة الإنسانية المتخبط فيها الإنسان السوري، بل تنضم إلى حالات التردد والضياع والانكسار والشك التي يعبّر عنها في شكل رئيس ثالوث البطولة الذي اتخذ الطابع «الشكسبيري»، والمؤلف من «وردة» التي تحب المعارض «محمود» ويحبها شقيقه الموالي «جابر» (مكسيم خليل)، فتتخلى عن زواجها من «أبو رياض» في آخر لحظة، إلى جانب شك «إيهاب» (فادي صبيح) بزوجته «خلود» (نظلي الروّاس)، إضافة إلى الفضاءات والحالات والشخصيات الدرامية الأخرى التي شكلت نماذج تساوت بواقعها، في عمل تآمر فيه الوجع مع النص والمخرج والممثل لإيصال رسالة رمادية تتأرجح بين الأحمر والأسود.
حددّ السيناريو المكان الأساس بمدرسة أصبحت مخيماً، ساوت المثقف والجاهل والسكير والمتدين في النزوح. وضمت غرفها أخوين وهما موالٍ ومعارض تحت سقف واحد، بمرض وراثي (السكري) واحد، و»وردة» التي تصبح أحد وجوه الصراع بينهما، فلا ينوبها إلّا البكاء والألم، الفكرة هنا واضحة! إلى جانب «إيهاب» أحد تجار الأزمة، يقول في أحد المشاهد: «إن شاء الله، ما يتفقوا الكبار وينهوا الحرب لضل عم استفيد»، في جزء من حوار استخدمت الشخصيات فيه مفردات الأزمة لربط الرمز بالواقع، في جمل كثيرة مثل «وين علم الثورة عبروفايلك؟»، و»أنت أجهضت الحوار»، و»إذا انت وسخ، ضروري تحرق البلد لتنظف حالك؟» و»ما بدي سافر، ركبلي صوبيا»، إضافة إلى مفردات بيئة النزوح مثل «ما بدي صير شحاد، بدي ارجع عالمدرسة»، والتي تشمل الاعتماد على «الحوالات المالية»، والرضا بأي عمل في الغربة، والموت غرقاً في مراكب الهجرة غير الشرعية، والسفر إلى السويد، وغيرها.
وقد يكون إيقاع الأحداث بطيئاً، لكنه أيضاً قد يُفَسر بإعطاء الفرصة للمشاهد كي يتأمل قليلاً، بخاصة إذا ربط بخيار المخرج بالموسيقى التصويرية الحزينة، وبالإضاءة الباهتة، لإيصال الحياة القاتمة التي تعيشها الشخصيات التي وضعت ربطاً أقل كمية من المكياج من أي عمل درامي آخر هذا الموسم. وتبدأ بصمة حنّا في إحياء النص باكراً وتستمر بمحاكاة رمزيته. في لقطات قريبة من مَشاهد متسارعة، يرى المُشاهد إقفال الأخوين «جابر» و»محمود» شباك غرفتهما بسبب الانزعاج من الموسيقى، بينما تفتح «وردة» في الوقت عينه باب غرفتها للخروج…
«غداً نلتقي» يعيد إلى الواجهة العمل السوري الذي يخرج من رحم الشارع، من دون الحاجة إلى ترف الإبهار البصري، مؤكداً أن ما لدينا من أرضية درامية حياتية في العالم العربي تكفي العالم ليقتبس منها، وليس العكس. وقدم ممثلين بأداء حقيقي، لا سيما عبد المنعم عمايري الذي يستحق بأدائه ودوره وضع اسمه في الشارة إلى جانب مكسيم خليل وكاريس بشّار المتفوقة في العمل على التمثيل المجرد. تجسد بضحكتها ودمعتها العفويتين عبثية الواقع المفروض واختلاط السخرية بالمرارة. كانت الإنسانة الحيّة التي تضحك إلى جانب جثة في مغتسل الأموات، والعروس التي تبكي حزناً تحت طرحتها وتهرب من عرسها، فأضحكت وأبكت المشاهد من واقع وصلت حدة استحالته إلى أن تقول في موقف يسّر فيه رجل شرقي إليها خيانة زوجته: «بسيطة بدك تطول بالك»… ربما لا يوجد جواب آخر، أياً تكن الأحداث المقبلة.