«كتابة البنات» مواسم من النضال

قبل أكثر من عقد ونيف، وتحديداً في النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين، برزتْ أعمال مُختلِفة في الشعر والرواية لكاتبات، بعضهنّ كان ينشر للمرة الأولى. ولفتت هذه الظاهرة انتباه الوسط الثقافي، ثم أخذت تتكرّس مع اهتمام النقّاد بها، وبخاصة حينما خصّص ناقد كبير بحجم شكري محمد عيّاد مقالة في الهلال عن «كتابة البنات»، والناقد والكاتب إدوار الخراط الذي سمّى هذه الظاهرة بـ «موسم كتابة البنات».

وقد أثار العنوان لغطاً حينها بين مُؤَيِّد ورافض الفكرة، الأمر الذي دَفَعَ بالباحث والأكاديمي خيري دومة إلى أن يقف عند الظاهرة ويُخْضعها للدرس العلميّ مُبيِّناً دوافعها وأسبابها، وطرائقها المُخْتَلِفَة كما جاء في دراسة ضافية نشرتها مجلة «نزوى» العمانية آنذاك بعنوان «رواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءة في بعض روايات البنات في مصر التسعينات». والمعلوم أنّ الكاتبة والصحافية بركسام رمضان، اتّخذت، بعد مضي فترة من الزمن، هذا العنوان لمجموعة من الحوارات التي نشرتها مع هؤلاء الكاتبات في محاولة منها للاقتراب منهن والتعرُّف إلى عوالمهنّ الخاصة، مستكشفةً طبيعة علاقتهن بالأدب والكتابة. وقد أعادت جمعها ونشرها في كتاب بالعنوان نفسه «موسم كتابة البنات وبورتريهات أخرى» (دار العين للنشر، 2010). ولكن إحقاقاً للحق، أكانت الظاهرة مُثارة في شكل أوسع في الغرب، بحيث طرح الإبداع الأنثوي نفسه، في ما قام عليه، كمناهض للبنية الفكرية الأبوية، وهو الأمر الذي أدى إلى سجالات واسعة ليس من المفيد عرضها هنا.

ريادات نسائيّة

إعلان

إعلان

إعلان

مرّ زمنٌ بعيدٌ نسبياً والكاتبات يواصلن رحلة الكتابة، بل رحن يطوّرن طرائقهن الكتابية، وكثيرات منهن تخلّين عن كتابة الذات وَطَرَقن موضوعات اتّخذها الرِّجال محاور في كتاباتهم، كقضايا الهُويّة والاغتراب والحروب والصّراعات الإقليمية، ومشاكل التهجير واستعادة التاريخ سرداً، كما فعلت نجوى شعبان في «نوة الكرم» مثلاً.

وثمّة من فضَّلت العودة إلى تراث «ألف ليلة وليلة»، لتستعيد ليس فقط خيوط الحكاية، بل بنياتها وأساليبها السّردية كما فعلتْ منصورة عز الدين في «جبل الزمرد». الأهم من هذا، أنّ الدائرة اتّسعت ولم تقتصر على جيل التسعينات، بل دخلت كاتبات جديدات الدائرة نفسها، والتحدي نفسه. وإن كانتْ كتابتهنّ اتسمتْ بالجرأة في تعرية الذات والبوح، ورقش المسكوت عنه بحديثهن عن الجسد ورغباته وإخفاقاته باستفاضة داخل النصوص، وهو ما أعاد هذه الكتابات إلى دائرة الاهتمام مرّة ثانية، إنما من دون تقليل منها -هذه المرة- كما حصل من قبل، بل بمناقشة قُدرة تحقيق هذا داخل النص. وعلى رغم القضايا والإشكاليات التي أثارتها كتابة المرأة، ظلت في نظر الكثيرين تفتقد إلى المعيارية البنائية، بل راهن بعضهم على عدم استمرارها، باعتبارها ظاهرة لا تلبث أن تختفي كظواهر عِدّة طرأت على ساحة الإبداع.

لكنّ الحقيقة التي قد تكون صدمت الكثيرين، وبخاصّة المراهنين على زوال زمن «كتابة البنات»، أن هذه الكتابة صارت أمراً واقعاً لأسباب عدّة، ليس آخرها إصرار الكاتبات أنفسهن على التحقّق على مستوى الكتابة، عبر توالى إصدارتهن، وعلى مستوى تشكيل أساليب جديدة مغايرة، وتحطيمهن طرائق السّرد العادية، وهو ما أثبتَ أن الأمر ليس مجرد ظاهرة قابلة للاختفاء، أو حتى لهذه الحفاوة النقدية التي استقبل بها كبار النُّقاد هذه الأعمال وقت صدورها.

وضعت هذه الكتابات كمحاور لمؤتمرات على نحو ما فعل ملتقى القاهرة الرّابع للإبداع الروائي العربي عام 2008 الذي يعقده المجلس الأعلى للثقافة، وخصّص في دورته طاولة مستديرة لمناقشة محور «شهرزاد الجديدة: صياغات (الراوية) فى روايات الكاتبة العربية الحديثة». ولا يكاد يخلو مؤتمر من المؤتمرات من طاولات مستديرة بغرض تقديم الكاتبات شهادتهن في هذا الإطار، وإنما يعود أيضاً إلى ميراث قديم استعادته الكاتبات يمتدُّ إلى شهرزاد الليالي، ويصل إلى عصر النتاجات الأولى التي كان لأسماء ريادات نسائيّة شكّلت كتابتهنّ مَلمحاً بارزاً في تاريخ الكِتابة بصفة عامة، أمثال وردة اليازجي، زينب فوّاز، عفيفة كرم، لبيبة هاشم، أليس بطرس البستاني، لبيبة صوايا، سلمى صائغ، وداد قرطاس، عنبرة سلام الخالدي، وغيرهنّ مِمَّن أسهمن في تدعيم مسيرة الرِّواية منذ نشأتها.

نساء وجوائز

يتمثَّل الاختبار الحقيقي لهذه الكتابات، في الصمود أمام كتابة الرجل، وفي المنافسة على الجوائز الأدبية التــــي بدأت تتنشر وتأخذ موقع الصدارة فــي واقعنا الثقافي. ومنها جائزة نجيــب محفوظ التي يصدرها قســم النشر في الجامعة الأميركية في مصـر، ثمّ جائزة ساويرس الأدبية التي تُشرف عليها مُؤسّسة ساويرس للتنمية الاجتماعية، وجائزة البوكر العربية، التي تمنحها هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة في الإمارات ، بالاشتراك مع مؤسسة جائزة «بوكر» في لندن. ومثلما نافست المرأة الرجل في المشروع الكتابي نافسته أيضاً في الجائزة، بل صارت تقف بمحاذاته بدرجة قريبة أو مساوية، حتى أن بعض الجوائز كجائزة نجيب محفوظ يلاحظ عليها أن في كثيراً من الأحيان تمنح مرة لكاتب وفي العام التالي لكاتبة.

أوّل انتصار حقيقي لهذه الكتابة هو منح نص سحر الموجي «داريا» عام 1999 جائزة أندية الفتيات في الشارقة، ثمّ تلا هذا حصول رواية مي التلمساني «دنيا زاد» على جائزة الدولة التشجيعية عام 2002، وهو النص ذاته الذي حصل على جائزة «أرت مار» في طبعتها الفرنسية. لكنّ منح الرواية الجائزة التشجيعية في فرع «أدب السيرة الذاتية» هو ما يوحي بخبث ماكر لدى اللجنة، التي لم تعترف بها كنوع ينتمي إلى جنس الرواية، وهو ما يشير إلى اعتراف منقوص بهذه الكتابة بصفة عامة التي أحالتها إلى أدب الاعتراف أو السيرة الذاتية، على نحو ما فعل العقاد بإحالة قصيدة الشعر الحرّ إلى لجنة النثر. هذا الاعتراف المنقوص لم يحل دون حصول الروائية المصرية سحر الموجي على جائزة كفافيس عن رواية «نون» عام ٢٠٠٧.

بعد فترة انتشرت الجوائز الأدبية في مصر ودول عربية أخرى، فجاءت جائزة ساويرس لتُكرّس الحضور النسائي في عالم الجوائز، ففي أولي دوراتها عام 2005 فازت الكاتبة نسمة يوسف إدريس عن مجموعتها القصصية «ملك ولاّ كتابة» (شباب الأدباء، مركز ثان)، وفي 2009 فازت الكاتبة ريم بسيوني عن روايتها «الدكتورة هناء» (شباب الأدباء). وفازت الكاتبة هناء عطية عن رواية «عنف الظل» (كبار الأدباء)، وفي عام 2013 قاسمت الكاتبة هدى حسين بروايتها «ورأيت روحي بجعة» الكاتب الكبير محمود الورداني الجائزة الأولى لفرع كبار الكتاب عن روايته «بيت النار».

أما في الدورة الأخيرة (2014)، فكان الحضور الأنثوي لافتاً، بحيث تقاسمت الكاتبة منى الشيمي الجائزة الأولى في فرع كبار الأدباء عن رواية «بحجم حبة عنب» مع الكاتب ياسرعبد الحافظ عن روايته «كتاب الأمان»، بينما ذهبت جائزة شباب الأدباء إلى الكاتبة دنيا كمال القلش عن روايتها « سيجارة سابعة»، في حين تقاسمت المركز الثاني رواية «رهانات خاسرة» للكاتب حسين البدري مع رواية «هارمونيا» للكاتبة سهيلة محمد حسن.

وفي القصة القصيرة جاءت في المركز الثاني مجموعة «دوار البر» للكاتبة رانيا هلال.

على منصة التتويج

وفي ما يخصّ جائزة نجيب محفوظ، فهي منذ نشأتها عام 1996، وعلى مدار دوراتها التي وصلت إلى التاسعة عشرة هذا العام، حصلت المرأة فيها على ثمانية جوائز بدءاً من لطيفة الزيات، التي حصلت على الجائزة في دورتها الأولى عن رواية «الباب المفتوح» ( 1996) بالاشتراك مع إبراهيم عبد المجيد عن روايته «البلدة الأخرى»، ثم تلتها في القائمة أحلام مستغانمي عن «ذاكرة الجسد» ( 1998)، ثم هدى بركات عن «حارث المياه» ( 2000). وفي العام التالي حصلت سمية رمضان على الجائزة عن رواية «أوراق النرجس» (2001)، يليها عالية ممدوح عن رواية «المحبوبات» ( 2004)، وبعدها سحر خليفة عن رواية «صورة وأيقونة وعهد قديم» ( 2006). وفي العام التالي أمينة زيدان عن «نبيذ أحمر» (2005)، وصولاً إلى ميرال الطحاوي عن روايتها «بروكلين هايتس» (2010).

ليس هذا بعيداً عما حصلت عليه أخيراً الكاتبة المصرية منصورة عز الدين باختيار روايتها «جبل الزمرد» (دار التنوير) كأفضل رواية عربية في «معرض الشارقة للكتاب» (2014). أما جائزة البوكر، فمنذ انطلاقتها في عام 2008 حتى الدورة الحالية، دخلت حوالى ستّ وعشرين كاتبة القائمةَ الطويلة من مجمل 125 رواية دخلت القائمة الطويلة. فازت خلال مسيرتها امرأة واحدة عام 2011، هي السعودية رجاء عالم عن روايتها «طوق الحمام»، مُنَاصَفَة مع رواية «القوس والفراشة» للمغربي محمد الأشعري.

عبر مسيرة الجائزة وفق تقرير أعدّه فايز علام على موقع «رصيف22»، دخلت القائمة القصيرة سبع كاتبات مِن مختلف الدول العربية، وكانت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي، واحدة مِمّن دخلن القائمة القصيرة مرتين، الأولى عام 2009 عن روايتها الحفيدة الأميركية والثانية العام الماضي 2013 عن روايتها «طشّاري».

وفي الدورة الأخيرة (2015)، دخلت خمس كاتبات القائمة الطويلة هنّ: مها حسن عن «الراويات» (دار التنوير)، ورواية «ريام وكفى» للكاتبة العراقية هدية حسين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، الكاتبة اللبنانية جنى فوّاز الحسن عن «طابق 99» (منشورات ضفاف والاختلاف)، السورية لينا هويان الحسن عن رواية «ألماس ونساء» (دار الآداب)، والكاتبة المصرية منى الشيمي عن رواية «بحجم حبة عنب» (دار الحضارة). ومن ضمن قائمة الكاتبات ثمة من سبق أن وصلت إلى القامة القصيرة في دورات سابقة، مثل السُّورية مها حسن عن «حبل سري» في عام 2011، وكذلك جنى الحسن التي دخلت القائمة القصيرة بروايتها «أنا وهي والأخريات» في دورة 2013.

روائيتان وصلتا الى القائمة القصيرة للبوكر التي اعلنت نتيجتها قبل أيام بفوز التونسي شكري المبخوت عن روايته «الطلياني»، وهما جنى الحسن برواية «طابق 99»، وهي للمرة الثانية تدخل القائمة القصيرة، ولينا هويان الحسن، برواية «نساء وألماس».

بعد كل هذه الإنجازات التي حققتها المرأة ليس فقط على مستوى الكتابة، إنما في منافستها الرجل على الجوائز أيضاً، ألا يحقّ للكاتبات بعد كل هذا أن يفخرن بما حققنه في مجال الأدب والرواية؟ ومع أنّ الجوائز ليست دائماً شهادة صدقية على الكتابة الحقيقية، ألاّ تصحّ إعادة النظر في دور الكاتبات في تحريك عجلة الرواية العربية وتدعيمها؟ وهل يصحّ استمرار نظرة الريبة تلك إلى نتاج المرأة الأدبي بعد كلّ ما قدّمته ومازالت تجتهد في تقديمه؟

+ -
.