«مئة عام من العزلة» … كيف كتب ماركيز هذا!

منذ قرأت «مئة عام من العزلة» ثم في ما بعد أعماله، أبصرت خاتمة ماركيز. ولماذا الخاتمة؟ ما كان له أن يولد أصلاً. لكن بما أنه ولد وعاش وكتب، فلا بد من أن أساعده على بلوغ نهايته. أن يموت؛ لذلك دعوت عليه من قلبي. نعم. من قلبي، ذلك أن ما ربطني به ليس حباً ولا كرهاً، إنما شيء لا أجد له اسماً ولا وصفاً. ولم يكن في لغتي كلمات تستوعب ما ربطني بكتابته. كان لا بد من خنجر يجز الحبل. لو أنني أستطيع لاغتلته، لكن بما أنني لن ألتقي به، ولم أظن يوما أنني يمكن أن ألتقي به، اضطررت إلى الدعاء عليه كلما قرأت أو أعدت قراءة ما كتبه.

لا يمكن أن يكون ماركيز كاتباً طيباً. ماركيز كاتب شرير. ولأنه مات لن أذكر محاسن كتابته إنما سأذكر شرورها وما جنته على الآخرين؛ فعلى امتداد خمسين سنة كم من الشباب – أو الشابات – الذين مزّقوا ما كتبوه لأنهم قرأوا ما كتبه ماركيز! كم من الشباب – أو الشابات – الذين هجروا الكتابة لأنهم متأكدون أنهم لن يكتبوا مثل ماركيز؟! وكم من هؤلاء الذين توهّموا أنهم سيتجاوزونه لكنهم وقعوا في فخه؟ هل يوجد أكثر شرّاً من الكاتب ماركيز؛ الكاتب الذي نشر ديموقراطية القراءة بين الناس، ثم منعهم من أن يكتبوا مثله؟!

كم فرحت حين قرأت شذرة باسكال هذه: «إنها لعلامة سيئة أن ترى رجلا فتتذكر كتابته». فرحت لأنها تنطبق على ماركيز، ما إن أرى صورته حتى أتذكر كل شيء كتبه. علامة سيئة. نعم. لكنني أعرف أنها ليست علامة سيئة، فأعود أدعو على ماركيز الذي أشغلني؛ إذ لا فكرة إنسانية لم يخمّنها إلى حد أنني أجد في ما كتبه توضيحات لدوافعي أفضل مما لو كتبت.

إعلان

إعلان

إعلان

ماذا يعني أن تصرخ بأعلى صوتك (يا إلهي كيف كتب ماركيز هذا!) ذلك شيء لا يدركه إلا من جرّب. ولو سأل أحد عن حالي لقلت: لعنته بعد كل قراءة، ثم ندمت على لعنه، لكنني عدت ألعنه لأنني أعدت قراءته. وقد كان دليلي دوستويفسكي، حين قال: «أحيانا لا تملك إلا أن تلعن».

يفوت الصدق من يقول إن كتابة ماركيز ممتعة؛ ذلك أن قراءة ما كتبه محوطة بالقلق: قبل القراءة وبعدها وحولها وخلالها. وما عدا ذلك فدعاية مغرضة. حين تقرأه هناك شيء يجعلك لست أنت. تغلقه وأنت تصرخ كما ميلفل في «موبي ديك»: «أيها الكتاب إنك تكذب. الحق أيها الكتاب أنه يجب أن تعرف حدك. لكنك تعرف أنه لا يكذب إنما أنت الذي لا تريد أن تتغيّر».

وأنا أتتبع أخباره عرفت أن ما يجعل الكتابة عما كتب هو أنه أحاط كتابته بكثير من الضجة، حكايات تلو حكايات. لكن ما يجعل الكتابة أكثر صعوبة أن الضجة قد تكون صحيحة. ألا يدفعك هذا إلى أن تتمنى موته لأنه يمتصّك ويتلاعب بك، ويحولك إلى مستهلك لروائعه.

حين رأيت صورته بكدمة في وجهه، تمنيت لو تتاح لي الفرصة لأقبل يد يوسا. تلك الكدمة التي رأيتها تحت عينه أقوى دليل على أن يوسا يحبه إلى حد الكره مثلي. هذا ما فكرت فيه وأنا أتأمل الدائرة السوداء، على الرغم من كل ما قيل عن أسباب تلك اللكمة.

إذا صدق ماركيز فقد حلم ذات مرة أنهم أنزلوه في قبر ثم عادوا وتركوه، عندئذ أكتشف أن الموت هو ألا يكون لأحد أصدقاء. وها هو الآن ماركيز بلا أصدقاء، ومنهم أنا، الذي لم ألتق به قط. أنا الذي أحببته وإن كنت سببْته؛ لأن المثل الجنوبي يقول «من سبّه حبّه».

+ -
.