ولد الشاعر محمد الفيتوري في مدينة الجنينة في السودان، في الرابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1936. عرف الشاعر ولادة واحدة، لكنه مات ميتات كثيرة، إلى أن ثبت رحيله في الرابع والعشرين من الشهر الجاري في مستشفى «الشيخ زايد» في الرباط. ولعلّ الفيتوري واحد من الشعراء القلائل، الذين قرأوا المراثي التي كتبت فيهم قبل أن يموتوا، بسبب التباس في خبر الوفاة، والشبهة فيه. وكان من قبله مثلاً الشاعر الفلسطيني علي فودة الذي كان يقيم في بيروت خلال الحرب الأهلية، وبعيد القصف الإسرائيلي على المدينة، انتشر خبر وفاته في يوم من أيام 1982، وكُتبت فيه المراثي بينما كان يرقد في المستشفى حيّاً يُرزق، فقرأ الكلمات الطيبة فيه ليموت بعد هذه الحادثة مطمئناً. وأشهر من تم تداول خبر وفاتهم مرات عدة في حياتهم، الشاعرة العراقية نازك الملائكة التي كانت تعيش حينها في القاهرة، إلاّ أنها لم تعلّق بشيء على أخبار موتها المزعوم حتى وافتها المنيّة، فكان الخبر اليقين. ولعلّ الموت هو الحقيقة الوحيدة الراسخة في هذه الحياة.
المرّة الأخيرة التي نُعي فيه محمد الفيتوري في حياته كانت في مجلة أخبار الأدب القاهرية، في عددها المؤرخ في 29 من نيسان (أبريل) 2012، حين كتب الشاعر المصري فاروق شوشة أنه سمع بموت الفيتوري من أصدقاء مغاربة، فكتب له مرثية طيبة تليق به، وأظنّ الفيتوري قرأها وقتذاك وضحك في سرّه. لقد افتداه في الموت شخص آخر يحمل الاسم نفسه، فذهب الخبر إلى الأكثر شهرة.
ولعلّ الاشتباه بموت الفيتوري مرات عدة يعود إلى إصابته بجلطة دماغية شلّت نشاطه الذهني والجسدي لسنوات، فاستمر يعيش حياة بيولوجية في الرباط (المغرب) التي اختارها مستقراً أخيراً له، تساعده زوجه المغربية وعائلته على تصريف أيامه الأخيرة. وهو الذي عاش لأكثر من خمسة عقود، بدءاً من خمسينات القرن الفائت حتى أواخره صاحب حضور شعري ساطع.
منذ بداياته، لمع اسم الفيتوري بسبب ارتباط قصائده بالروح الأفريقية المعذبة، والإنسان الأسود اللون (الزنجي) المضطهد بسبب لونه وموقعه الاجتماعي على حدّ سواء. فحاول أن يبتكر بالشعر شمسه المنيرة السوداء، بقول أبي الطيب المتنبي، وأن يتحرر بهذا الشعر من كلّ قيوده في اللون والجسد والانتماء. ذلك أن مبدأ هذا التحرر كان نابعاً من الداخل، من القلب الحرّ، وأن الجسد كان عبئاً ثقيلاً على روحه الحرة. فظهرت هذه المفارقة في شعره وفي سلوكه في وقت واحد. وهو يقول في «أغاني أفريقيا» (1955): « جبهة العبد ونعل السيد/ وأنين الأسود المضطهد/ تلك مأساة قرون عبرت/ لم أعد أقبلها لم أعد».
شاعر شموس ومعذب
عرفتُ محمد الفيتوري معرفة شخصية أثناء إقامته في بيروت، مندوباً سياسياً لليبيا، في سبعينات القرن العشرين. والتقيت به بعد ذلك، في مواقع متباينة، في القاهرة، وكافالا (اليونان). وكان أبرز ما يطبع شخصه انه إنسان شموس، بمعنى أنه مستنفر، بل حاضر للاستفزاز. وأغلب الظن أنه ينطوي على روح معذبة وكبرياء مجروح. هو شديد الإحساس بتفوقه الشعري، وقدرته على الأداء بالحركة والصوت المرتجف، والاتكاء على طرف المنبر بيمينه، لكي يطلق نظره ومن ثم صوته، بكلماته الراجفة المتوترة. لكنه كان مسكوناً بسواد لونه، وجسمه الضئيل، ويستعمل الشعر للسيطرة والفحولة. كانت تسكنه تلك الصورة الأولية، التي كتبها في مطلع حياته الشعرية، بـ»جبهة العبد ونعل السيد». من هنا أساس شخصيته المتوترة الاستفزازية، وقد انعكست على عبارته وسلوكه الشخصي. فهو شاعر الطوطم الأفريقي بامتياز، وهو شبيه هذا الطوطم أيضاً. وحين نقول إنه مصنوع من كيمياء أفريقية، فلأنه يجري في عروقه من ناحية الأب، دم سوداني، ومن ناحية الأم، دم ليبي. وهو وإن كان وليد مدينة الجنينة في السودان، إلا أنه نشأ في مدينة الاسكندرية وتلقى علومه فيها، فحفظ القراَن وتخرج من كلية العلوم في الأزهر الشريف.
وفي القاهرة أيضاً، خطى الفيتوري خطواته الشعرية الأولى، فصدر له في الخمسينات والستينات «أغاني أفريقيا» (1955)، «عاشق من أفريقيا» (1964)، و»اذكريني يا أفريقيا» (1965)، «أحزان أفريقيا» (1966). وأول من سلط الضوء النقدي عليه كان الناقد المصري محمود أمين العالم، الذي كتب مقالة مسهبة عن إحساسه بالدونية وتوقه إلى الحرية في وقت واحد. وكان العالم ناقداً اشتراكياً ملتزماً، أخذ بمعاني التحرر التي كتبها الفيتوري في دواوينه الأفريقية، أكثر مما أخذ بصيغته الشعرية، التي بقيت كلاسيكية محافظة. ذلك أن الفيتوري كان ميالاً إلى المد الاشتراكي الشيوعي في كل من مصر والسودان، وله قصيدة في شنق المناضل الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، تمّ تداولها في الأوساط الثقافية اليسارية، التي اعتبرت الفيتوري شاعرها حينذاك.
وفي قصيدته هذه «البطل والثورة والمشنقة» (1968) نلمس الكثير من الشعارات والخطابة والقليل من الشعر. فهو يقول مثلاً بنثرية إعلانية: «لماذا يظن الطغاة الصغار (وتشحب ألوانهم) أن موت المناضل موت القضية». إنه نسيج شعري ضعيف لقضية جوهرية. ليس من إبداع شعري جديد ومتميز، بالمعنى الأسلوبي والتجديدي للكلمة، في دواوين الفيتوري الأفريقية وفي شعره السياسي الملتزم على العموم. بل لعله في هذا الشعر كان صاحب شعارات وخطابات صحيحة ببعدها السياسي والاجتماعي، لكنها ضعيفة بالمعنى الشعري. لذلك لا يُمكن الإشادة بالفيتوري شعرياً وإبداعياً إلا في ثلاث مجموعات شعرية متميزة هي على التوالي: «معزوفة لدرويش متجول» (1971) و»ابتسمي حتى تمرّ الخيل» (1975) وأخيراً ديوان «عرياناً يرقص في الشمس» (2005). وفي هذه الدواوين الثلاثة، ظهرت فرادة محمد الفيتوري لناحيتين، النكهة الصوفية العميقة في «معزوفة لدرويش متجول» وسحرية الطوطم الأفريقي والروح المعذبة في «عرياناً يرقص في الشمس».
سقوط ما لا بد من سقوطه: بقاء الجوهر
عوامل كثيرة جعلت من محمد الفيتوري شاعراً صاحب التباسات سياسية وشخصية مؤثرة. ولعلّ تكوينه الجسدي وروحه الطامحة إلى الحرية والحضور القوي في المجتمع، كل ذلك أوجد توتراً في عبارته كأنما هي ممسوسة بسلك من كهرباء. لكنّ رغبته الطاغية في التسيّد والسلطة جعلته يتقرب من حكام معروفين كالرئيس العراقي صدام حسين والرئيس الليبي معمر القذافي. لقد مدح الفيتوري كلاً من الرئيسين بمدائح هي أدنى شعرياً وفنياً من سائر أشعاره التي تميزه في التصوف والطوطم الأفريقي… ونحن لسنا في صدد نصب محكمة للشاعر الراحل، إنما النظر في إبداعه الشعري. فالمتنبي، على رغم مديحه لكافور الإخشيدي، ظلّ كبيراً ومبدعاً. أما الفيتوري فكان ضعف شعره في المدائح ظاهراً، إذا قيس بسائر شعره. ولعل ذلك أثّر عليه، فخَفَت ذكره بعد رحيل الرئيسين المذكورين. لنعد إذن إلى الجوهري من جوهر شعر الفيتوري. وهو ما نعتقده متميزاً وجارحاً وجميلاً. ففي ديوانه الأخير «عرياناً يرقص في الشمس» (2005)، يسرّب لنا الشاعر صورة رقص طفل أفريقي مولود للتوّ كجوهرة سوداء، ترفعه أمه بيدها وترقّصه أمام الأشجار العملاقة وأمام حراب الزنوج والأقنعة والوجوه المخططة بالأصباغ.
هذا الجو السحري الأفريقي هو خاصية الفيتوري، يضاف إليها خاصية الدراويش في رقصهم الصوفي، والجياع والعراة والمقهورين. ففي قصيدة الرياح يقول الشاعر: «ربما لم تزل تلكم الأرض تسكن صورتها الفلكية/ لكن شيئاً على سطحها قد تكسر/ ربما ظل بستان صيفك أبيض/ في العواصف/ لكنّ برق العواصف خلف سياجك أحمر/ ربما كان طقسك ناراً مجوسية في شتاء النعاس الذي لا يفسر/ ربما كنت أصغر مما رأت فيك تلك النبوءات أو كنت أكبر/ غير أنك تجهل أنك شاهد عصر عتيق/ وأن نيازك من بشر تتحدى السماء وأن نداء النجوم تغير/ هكذا انطفأت شرفات السنين المشعة بالسحر/ واللؤلؤ الأزلي/ وأسدل قصر الملائكة المنشدين/ ستائره/ وكأن يداَ ضخمة نشرت أفقاً من شرايينها في الفضاء السديمي/ ها قد تداخلت اللغة المستحيلة في جدل الشمس والكلمات».
الفيتوري هنا هو الدفعة النارية للشمس الأفريقية حتى تشتبك مع كلمات القصيدة. فيطلع الشعر من منبع السحر والعذاب، وتظلّ لغته مشدودة، متوترة، كالنيازك في سماء أفريقيا. تدور في عتمة وترقص مع الأشباح.
يعلّق الفيتوري على مشجب الشمس الأفريقية ما يشبه أكفان القصيدة، ويستنطق الروح الحية للكائنات السوداء، فيقول: «هي ذي الشمس راهبة الجزر القرمزية/ تدفن في غابة الليل أزهارها/ وتقيم قداديسها/ وتعمد جدران قبلتها بالدماء».
تسكن قصائده روح بدائية وطوطمية كعيون الدمى، وطيور الدجى، أشباح ونيران مشتعلة ودماء قرابين. وقد نعثر في قصائده على الطحلب الميت الذي ينبت فوق السقوف، ويتسلق الجدران إلى الشرفات. تحضر أيضاً الخناجر المغسلة بالدماء، والتعاويذ المعلقة في الرقاب، والوشم على الكتفين والطقوس القديمة. أضرحة الرخام والعظام والأشباح، كلّها في خطاب شعري فيه من الطوطم ما فيه من الألم. تتجلّى في ديوان «معزوفة لدرويش متجول» أفريقيا، ووجهه الآخر، المشتق من وجه أبيه مفتاح رجب الفيتوري، الذي كان صوفياً على الطريقة الشاذلية العروسية الأسمرية. فيرقص في حضرة من يهواه وتعصف به أشواقه. يحدق بلا وجه، ويرقص بلا ساق، ثم يزحم براياته وطبوله آفاق الرؤيا الصوفية. عشقه يغني عشقه، وفناؤه استغراق. هو مملوك المعبود، لكنه سلطان العشاق، وطاووسهم، وخادم مملكة الدراويش والمجاذيب وأصحاب الحضرة إلى الأبد.
شهادتان
عصام عيسى رجب: ويَبقى النَّشيد…
«صدِّقني يا ياقوتَ الْعَرْشْ إنَّ الْموتى ليسوا هُمْ هاتيك الْموتى…». الْفَيتوري لعلَّ حياةَ الشَّاعر السُّوداني الْكبير مُحمَّد مفتاح الْفيتوري كانتْ مِنْ بَدْئها إلى خاتِمتِها قصيدةً طويلة، قصيدة بِكُلِّ ما للقصيدةِ مِنْ هدوءٍ وصَخَب، ورِقَّةٍ وشراسة، وثَوريَّةٍ وصُوفيَّة. وما رحيلُهُ هكذا وحيداً كالسَّيف، غريباً وطالما تقاسَمتْه بِلادٌ ومُدُنٌ عربيَّة شتَّى، إلا تجسيداً أخيراً لهكذا قصيدة. كانَ شاعِراً مُخلِصاً بدءاً ومنتهى لقصيدتِهِ التي لَمْ تكُنْ تشبِهُ قصيدةَ أحدٍ سواه. تقرأها فتقولُ: هذه قصيدةُ الفيتوري. ولا أعني هنا قصائده الأفريقية: أغاني إفريقيا/ عاشِقٌ مِنْ إفريقيا/ اذكريني يا إفريقيا و/ أحزانُ إفريقيا… ولا في ميلِهِ الْعربي. ولا بُكائهِ على انكسار اليسارِ السُّوداني في سبعينياتِ الْقرنِ الماضي، كما في ديوانه: أقوالُ شاهِدِ إثبات. ولا. يكفيك أنْ تلمس الْهَمَّ الإنساني في قصيدةٍ باكِرةٍ، يقولُ فيها: «يا ليتَني راعٍ عتيقُ الرِّداء/ ذو عصا مشقوقَةٍ بالية/ شرابُهُ مِنْ دَمْعَةِ السَّاقية/ وقُوتُهُ مِنْ مُهْجةِ الدَّالية/ يسوقُ للغاباتِ أغنامَه/ ورُوحُهُ كرُوحِها صافية/ راعٍ لَهُ صاحِبةٌ ترتجي عودتَه/ في الليلةِ الشاتئة/ حتَّى إذا عادَ إليها/ ارتَمَتْ في حُضْنِهِ/ أدْمُعُها الْهانية…». أو في حُنْوِهِ الْبالِغِ على تلك الخيول في تلكم الليلةِ الْمُمطِرة: «أيُّها السائقُ رِفْقاً بالْخيولِ الْمُتعَبة/ قِفْ، فإنَّ السَّرجَ أدمى لَحَمَ الرَّقَبة/ قِف، فإنَّ الدَّربَ في ناظِرةِ الْخَيلِ اشتَبَهْ/ هكذا، كانَ يُغنِّي الْموتُ حولَ الْعَربَة/ وهي تَهوي تحتَ أمطارِ الدُّجى مُضْطَرِبَة….». اختَلَفَ النَّاسُ حولَ مواقِفِ الْفيتوري، ويختَلِفون. ولكنَّهم يتفقونَ على قصيدَتِه. ومَنْ فاتَهُ أنْ يراهُ يقرأُ شِعْرَهُ، فقد فاتَهُ الكثير مِنْ شاعِريَّتِه، فالرَّجلُ كانَ يقرأُ قصائدَه بِمزيجٍ مُدْهِشٍ مِنْ الرَّهافَةِ والْعُنْف. يقرأُ قصائدَه، وكأنَّهُ يكتُبُها لحظةَ إلْقائهِ إيَّاها. كانَ أيقونَةَ الشِّعْرِ السُّوداني الذي لا يعرِفُ الآخرونَ عنه إلَّاه، إلَّا قليلاً.
محمد جميل أحمد : سيزيف الأسود ربما لم نقع على شاعر عربي اختبر الاغتراب في هويته الشعرية كالفيتوري الذي غامر برهان الشعرية، وحده، لتسويغ هويته السوداء في ثقافة بيضاء. عاش الفيتوري سيزيفا أفريقيا، وحيداً ومغترباً في أمكنة وأزمنة عربية مختلفة، وصاحب مناخاً قاسياً لكتابة مسننة وجريئة تجهر بالاختلاف المسكوت عنه، وتعبر عن عذاب شعري لا يكاد يصغي إليه أحد في مجاز هوية بيضاء شكلت إطاراً عاماً لذاكرة الشعر العربي، لهذا جاءت كتابته الشعرية المختلفة عن أفريقيا وعن الزنوجة متوترة وقوية وصادمة لتلك الذاكرة. وبهذا المعنى لم يكن الفيتوري يخاطب هوية عربية في بدايات مواضيعه الشعرية بقدر ما كان يصفي حساباً جمالياً وانسانياً مع الذاكرة، نحو أفق يحرر انسانية الشعر العربي من ذاكرته البيضاء. كان يمكن للفيتوري، مبكراً، أن يكون أيقونة سوداء للحرية في الشعر العربي ولونية مختلفة في تعزيز قيمة التنوع وإنسانيته في ذلك الشعر وفي ثقافته الحديثة، لكنه لم يجد في محيط تلك الثقافة ما يمنح المعنى الأيقوني لتجربته استحقاقها الفريد؛ استحقاقاً جمالياً في الشعر يوازي إبداع مارتن لوثر كنج في السياسة، وبوب مارلي في الغناء، عالمياً. ربما وجدت الهوية الشعرية المغتربة للفيتوري أخيراً كتابات نقدية نادرة ومميزة، على نحو ما كتب عنه الناقد المغربي بن عيسى بوحمّالة، لكننا اليوم بعد أن رحل الفيتوري، ورحل معه سجال دنيوي عريض حيال مواقفه السياسية وطرف من شعره المتصل بديكتاتوريين عرب؛ سنحتاج إلى اختبارات أخرى لملامسة أثره الشعري ومجازاته المنفتحة على أكثر من أفق للحرية والتصوف والجمال. رحل صاحب «البعث الأفريقي» ليبقى ما يستحق البقاء منه أخيراً.