اتسع نطاق محاولاتنا لفك أسرار العقل ليمتد من أفكار تتعلق بعلم زائف يطلق عليه اسم “بمبولوجي” (علم نتوءات الدماغ)، إلى ذلك الدور المدهش الذي اضطلع به فريق “بيتلز” الغنائي الشهير.
ما الذي يجري بداخل جمجمة كل منّا؟ بفضل أجهزة فحص الدماغ بالأشعة وغير ذلك من الوسائل المتطورة تكنولوجيا، باتت لدينا حاليا التقنيات التي تسمح لنا بالنظر بتمعن داخل الدماغ.
لكن الوضع لم يكن على هذه الشاكلة دائما، فعلى مدار القرون القليلة الماضية، سعى البشر وبوسائل أخرى مختلفة إلى فهم كيفية عمل هذه المادة الرمادية الغامضة الموجودة في المخ البشري.
للتعرف على الكيفية التي حدث بها ذلك، تحدثت إلى عدد من الخبراء العاملين في متحف العلوم بالعاصمة البريطانية لندن، وذلك لفحص الأدوات والتقنيات التي استعانت بها الأجيال السابقة في محاولاتها لفهم طبيعة الدماغ وعمله.
وفي مقطع مصور على موقع بي بي سي فيوتشر، تستعرض المسؤولة عن المتحف كاتي دابين هذه الأشياء المثيرة للاهتمام والطريفة في الوقت ذاته؛ والتي تتراوح ما بين تماثيل صغيرة غريبة الطابع وآلات وماكينات هائلة الحجم.
كما تحدثتُ أيضا مع علماء متخصصين في عمليات فحص الدماغ بالأشعة، وذلك للتعرف على أفكارهم بشأن ما الذي يمكن أن تشهده التقنيات المستخدمة في هذا الشأن من تطورات تكنولوجية في المستقبل.
“بمبولوجي” (علم نتوءات الدماغ)
تبدأ القصة بمجموعة تضم العشرات من التماثيل الخزفية الصغيرة الموجودة في متحف العلوم في بريطانيا، والتي تتخذ هيئة رؤوس بشرية مختلفة الأشكال والأحجام.
وتوضح دابين أن هذه الرؤوس نُحتت من جانب ممارسي علم زائف غريب كان يُطلق عليه اسم “علم فراسة الدماغ”، والذي عُرف يوما ما باسم “علم فهم العقل”. وفي أواخر القرن الثامن عشر، كان يُعتقد أن الشكل الذي تتخذه جمجمة شخص ما يعطي فكرة جيدة عن شخصيته وحالته النفسية والعقلية.
أُطلق على “علم فراسة الدماغ” يوم ما اسم “علم فهم العقل” ولكننا نعلم الآن أن لا أساس له من الصحة
Image copyrightSPL
كانت الفكرة التي يقوم عليها “علم فراسة الدماغ” الزائف هذا تتمثل في أنه يمكن لممارسيه فهم كيفية عمل أدمغة مرضاهم عبر أخذ قياسات لأجزاء جماجمهم ونتوءاتها المختلفة.
وتوضح دابين هذا الأمر قائلة إن ممارسي ذاك “العلم” كانوا يتصورون أن “بوسعهم تحسس وقياس الملامح الخارجية لجمجمتك، والتعرف على طبيعة شخصيتك أو طبيعة حالتك الذهنية والنفسية”.
ولم يتسن لجامع هذه التماثيل، ويليام بالي، اقتناؤها بسهولة. فبعضها أُخِذَ من أشخاص كانوا يريدون التعرف على “الخطوط العريضة لشخصيتهم وحالتهم الذهنية والنفسية حسبما يظهرها علم فراسة الدماغ”، بينما تم الحصول على البعض الآخر في واقع الأمر عبر صب الجص على رؤوس أشخاص متوفين. وقد كان بوسع بالي الحصول على مجموعة كبيرة من تلك التماثيل.
ويزهو هذا الرجل بوضوح بأن لديه أشكالا لرؤوس 600 من المجرمين الجنائيين، بينهم لصوص وقتلة. وبحلول العقد الخامس من القرن التاسع عشر، جُرِّدَ “علم فراسة الدماغ” من تصنيفه كعلم، وذلك بعد خمسين عاما من ظهوره. وتقول دابين إن ذاك “العلم” – الذي كان يُعرف في بعض الأحيان باسم “بمبولوجي” (علم نتوءات الدماغ) – كان قد عفا عليه الزمن.
وبدلا من ذلك، أنصب تركيز العلماء على دراسات حالة حقيقية خاصة بمرضى يعانون من إعاقات أو تلف في قدرات بعينها. وبالنسبة للعلماء الأوائل في هذا المضمار مثل بول بروكا، بات من الواضح أن ثمة مناطق محددة من الدماغ ذات أهمية خاصة فيما يتعلق بأداء وظائف بعينها.
فـ”بروكا”، مثلا، كان قد خلص إلى أن منطقة معينة في دماغ اثنين من مرضاه هي السبب في عجزهما عن الكلام.
فبرغم أن الأفكار المتعلقة بـ”علم فراسة الدماغ” كانت قد فقدت مصداقيتها، فإن الفكرة المتعلقة بأن مناطق بعينها في الدماغ قد تسبب حدوث سلوكيات معينة، ظلت قائمة.
ولكن ذلك لم يفد في جعلنا أكثر قربا من فحص الدماغ البشري خلال أدائه لوظائفه. ولم يتمكن العلماء من قراءة الإشارات الكهربائية التي يموج بها الدماغ سوى في عشرينيات القرن العشرين، ليحظى هؤلاء للمرة الأولى بفهم واضح للنشاط الكهربي الذي يشهده دماغ شخص حي، وذلك من خلال تقنية أُطلق عليها اسم “رسم الدماغ الكهربائي” أو “تخطيط أمواج الدماغ” المعروفة اختصارا باسم “إي إي جي”.
وفي بادئ الأمر، استخدمت هذه التقنية لأغراض عجيبة، مثل تحديد ما إذا كان شخصان متوائمين إلى حد يُمكنهما من الزواج أم لا، أو فحص أدمغة المجرمين.
يتطلب إجراء أشعة مقطعية على الدماغ استخدام الأقطاب الكهربائية التي يُستعان بها كذلك في عملية “رسم المخ الكهربائي”
Image copyrightSPL
لكن الاستخدام الأكثر شيوعا لهذه التقنية كان يتمثل في الاستعانة بها لفهم نشاط أدمغة المصابين بحالات مرضية مثل الصرع، وذلك لتتبع ما يحدث بداخل أدمغتهم خلال مرورهم بإحدى نوبات المرض.
وعند بدء استخدام هذا الأسلوب، كان يشتمل على غرس أشياء في رأس المريض. وقد سنحت لي الفرصة لزيارة مستودع تخزين هائل المساحة بداخل متحف العلوم، حيث أرتني كاتي دابين أحد الأجهزة الأولى التي استُخدمت لـ”تخطيط أمواج الدماغ”. وكانت مثل هذه الأجهزة تُستخدم للتعرف على الإشارات الكهربائية في الدماغ، وكذلك لتحفيزه كهربائيا.
ولكن رصد مثل هذه الإشارات لم يكن كافيا وحده، لتمكيننا من رسم صورة للدماغ، ولذا كانت هناك حاجة لوسيلة أكثر تطورا.
وفي سبعينيات القرن الماضي، اكتشف غودفري هانسفيلد – الذي كان وقتذاك مهندسا في شركة (إي إم آي)، التي يعرفها الكثيرون بأنها الشركة التي ظهر مقرها في ملصق وُضع على أحد تسجيلات فريق البيتلز الغنائي الشهير، وسيلة لفحص الدماغ باستخدام الأشعة السينية، وهو ما يُعرف باسم تقنية فحص الدماغ من خلال إجراء أشعة مقطعية عليه.
لذا، فقد أسهمت الإيرادات التي حققها فريق البيتلز والتي تُقدر بملايين الدولارات – بطريقة غير مباشرة – في توفير الأموال اللازمة لتطوير هذه التقنية. (رغم أن البعض يذهب للقول – منذ ذلك الحين – إن دافع الضرائب البريطاني أسهم بشكل أكبر بكثير في هذا الشأن)
ويوجد في متحف العلوم في لندن أحد الأجهزة الأولى التي استُخدمت لإجراء أشعة مقطعية على الدماغ، وهو كبير الحجم كما هو موضح أسفل هذه السطور.
وفي الوقت الراهن، تُعرف أحدث التقنيات المستخدمة لإجراء فحص للدماغ بالأشعة باسم “التصوير باستخدام الرنين المغناطيسي” أو “التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي”. وقد التقيت خبيرا في الأعصاب يُدعى جو دِفلين من كلية لندن الجامعية، إذ أجرى لي هناك فحصا بالأشعة على دماغي لكي يوضح لي كيف تتم هذه العملية.
وفي واقع الأمر، تُمكِّن هذه التقنية خبراء علم الأعصاب مثل دفلين من رؤية التغير في مستوى الأوكسجين في دماغي، وهو يحدث بالفعل. فإذا كانت هناك منطقة معينة في الدماغ منخرطة في أداء مهمة محددة، فلنقل مهمة لغوية أو أخرى متعلقة باختيار مفردات لفظية، فستشهد هذه المنطقة زيادة في كمية الدم المتدفقة إليها طيلة استهلاكها للطاقة.
ويراقب جهاز تصوير المخ باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي تدفق الدم في مثل هذه الحالات.
Image copyrightSPL
ويقول دِفلين: “بوسعنا رؤية المناطق التي تضيء في المخ خلال أدائك” مهمة بعينها. فعلى سبيل المثال، تختلف المناطق التي تنشط في الدماغ عندما أنخرط في التفكير بنشاط بشأن ما يُفترض عليّ أن أقوله، عن تلك التي تنشط حينما أودي مهمة نمطية رتيبة مثل العد، وهي مهمة لا تتطلب الكثير من التفكير والتركيز.
لكن إذا ما كان هذا يوضح ما هي مناطق الدماغ المسؤولة عن أداء مهمة ما موضع الاهتمام من قبل الباحثين، فإنه لا يعني أن جهاز فحص الدماغ عبر تصويره “باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي” قد اقترب بأي حال من الأحوال من قراءة ما يجري في داخل دماغ الإنسان.
رغم ذلك، فإن فحوصا إشعاعية مثل هذه أدت إلى حدوث تغيير ذي طبيعة ثورية في فهمنا لما يجري في الدماغ. وهنا يقول دِفلين: ” تقليديا، كل ما كان لدينا لم يكن يتعدى مرضى مصابين بتلف في المخ. كان بوسعنا رؤية موضع هذا التلف، وما هي المشكلة التي يعاني منها هؤلاء المرضى”.
غير أن عمليات فحص الدماغ بالأشعة سمحت للباحثين بإنعام النظر بداخل أدمغة الأصحاء، لملاحظة الكيفية التي يجري بها استخدام المناطق المختلفة في الدماغ، وطبيعة العلاقة التي تربط بين هذه المناطق وبعضها البعض.
وهنا يثور السؤال: ما هي التطورات المستقبلية المتوقعة فيما يتعلق بجهودنا لفهم عمل الدماغ؟
مما يثير الاهتمام في هذا الشأن أن تقنيات مثل “تخطيط أمواج الدماغ” و”الأشعة المقطعية” لا تزال مستخدمة في الوقت الراهن، بل وسيتواصل استخدامها في المستقبل المنظور.
فالأطباء لا يزالون يجرون “أشعة مقطعية” على الدماغ في العديد من المستشفيات. أما تقنيات “تخطيط أمواج الدماغ”، فلا تزال تُستخدم بدورها في التجارب البحثية.
فعلى سبيل المثال، يسعى العلماء لاستكشاف كيف يمكن أن يؤدي استخدام وسائل تحفيز كهربائي للدماغ، لا يتم غرسها في دماغ المريض، إلى التخفيف من أعراض الاكتئاب وكذلك أعراض مرض الشلل الرعاش، المعروف باسم “باركنسون”.
لذا، فهل ستعتبر الأجيال المقبلة جهودنا لفحص الدماغ ودراسته مجرد محاولات بدائية ساذجة كما ننظر نحن لعلم الفراسة؟ ربما. ولكن ما هو واضح وقاطع أننا لن نكف قط عن محاولاتنا لكشف أسرار هذه المادة الرمادية القابعة بداخل جمجمة كل منّا.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future.