نزار قباني «الأشهر» … دراما الحبِّ والهجاء

في الذكرى السابعة عشرة لرحيل الشاعر نزار قباني (1923- 1998)، أعادت دار نوفل المالكة الحصرية لحقوق نشر مؤلفاته، إصدار دواوينه متفرقة، كما صدرت من قبل ولكن بأغلفة جديدة. وكانت مبيعات قباني شهدت في الآونة الأخيرة تراجعاً، والسبب كما يقول بعضهم هو غياب الشاعر. لكنه يظل من أكثر الشعراء العرب رواجاً. هنا قراءة في شعره.

< لا شكَّ في أن شعر نزار قباني يمثِّل نكهة خاصة لم تكن معتادة في الشعر العربي، لكنها في الوقت ذاته ليست تلك النكهة المؤسِّسة لذائقة مغايرة تماماً. إنها أشبه بالتوابل المخترعة من حياة جديدة، إضافة إلى الوجبة التقليدية في المطبخ العربي، أو لعلها تلك النكهة السريعة التي وصفها السيَّاب بنكهة الشوكولاته «تحسُّهُ ما دام في فمك إلا أن طعمَهُ يزول عندما تنتهي من مضغه!».

ولا شك في أنَّ صاحب «قصائد متوحشة» هو أشهر شاعر عربي في القرن الماضي، لكنّ الأشهر ليس «الأشعر» بالضرورة، ولا الأكثر تأثيراً في الشعر العربي، وبالتالي في الوعي العربي، فشهرته استحصلها من براعته في مُداعبة المزاج الجماهيري العام، واللعب الذكيّ على حاجات الواقع العربي، مستلهماً قاعدة «كل ممنوع متبوع»، مع أنّ شعره لا يقدم بديلاً نوعياً لحالة التردِّي في الحياة العربية من صميمها. لأنَّ الشعر نفسه قد يغدو أحياناً، مثل «الخبز الحشيش والقمر»، هو الحياة التي أعلن نزار قباني تمرُّده عليها في وقت مبكر، فيغدو مخدَّراً قريباً وخرافة أخرى ما لم يخرج من حدود تشخيص العوز والحرمان، نحو رسم فضاء الحاجة إلى التغيير، فالشعر بدأ من الأساطير، وارتبط بالحضارة والثقافة، بمعنى أنك لا يكفي أن تذكر العطشان بعطشه، وليس عليك كذلك أن تتحول إلى تجلٍّ بديلٍ لآلهة الأساطير فتصنع له المطر، بل عليك أن تدلَّه على النهر أو تعلّمه كيف يحفر بئراً على الأقل.

إعلان

إعلان

إعلان

وسط هذه الشهرة النادرة في عصرنا، هل يمكن تبيُّن الحضور التأثيري لصاحب «الرسم بالكلمات» في مسيرة الشعر العربي الحديث، أم أنَّ تأثيره ظل مقتصراً على المزاج العام، لا على تاريخ تطور القصيدة؟

لم يكتب شاعر «أشعار خارجة على القانون» قصيدة التفعيلة إلا بعدما أصبحت خياراً شعرياً حداثياً، فدواوينه الثلاثة الأولى ذات قافية موحدة، راوحت بين الشعر العمودي («قالت لي السمراء» و «طفولة نهد» و «أنت لي»)، أو البناء الموسيقي التوشيحي («سامبا»)، قبل أن ينشر ديوانه الخامس («قصائد») سنة 1956، وفيه قصيدة «مع جريدة» التي بدت مجاراة للصعود الكبير لقصيدة التفعيلة أو ما اصطلح عليه بالشعر الحرّ. ولكنه حتى في شعره العمودي تخلى عن الجزالة المعهودة، في محاولة لتقريب القصيدة من الزجل، سواء بالإيقاع، أو ببناء العبارة، وكثافة الجملة، وزهد الصورة. ولهذا كان شعره ملائماً للغناء، هو أشبه «بالطقطوقة»، بل إن بعضه يلتزم تماماً بتقاليد «الطقطوقة» في تكرار اللازمة، وبناء المقطع.

كان شاعراً في نثره، وصحافياً في شعره، بمعنى أنه مؤلف بارع يواكب الأحداث، خطابياً في قصيدته، وساخراً في صوره الشعرية، فالسخرية عمود شعره، أعني تلك المفارقة المكثَّفة التي تتسم بها أشعاره. لكنها سخرية من الآخر، كشأن شعر الهجاء، وليست مراجعة للذات، كشأن النقد.

المرأة والغزل الفتيشي

نزار قباني شاعر الشارع في أقصى مدى جماهيريته، وشاعر الصالونات الفارهة في أضيق نخبوية ممكنة لعزلة شعره، ولهذا أستأثر بقاعدة عريضة من القرّاء في العالم العربي، بينما لم تحظ تجربته بدراسات نقدية رصينة تتناسب مع هذا الحضور الجماهيري. وفي ثقافات التلقِّي الاجتراري للشعر، يوصف بشاعرة المرأة، فهل هو كذلك حقَّاً؟ هل في شعره ما يمكِّننا من مواجهة «المشكلة الجندرية» للأنوثة، أم أنَّ قصيدته فسيفساء من صور نساء متعددات؟ وهل تكفي استعارة ضمير المؤنث ومخاطبة المذكَّر بندية واتهام، ليغدو شاعرٌ ما جديراً بهذه التسمية، ومن ثمَّ يغدو لسان حال المرأة؟

في خطابه للأنثى، عبر نماذج ليست قليلة من قصائده الذكورية «ضمير المذكر» ، وبوجه خاص في أشعاره الأولى، نجد صورة للعلاقة الزبائنية، العلاقة بالأجرة «بدراهمي لا بالحديث الناعم. حطمتُ عزتك المنيعة كلَّها»، أو صورة سادية تتجلى بها المرأة ضحية مسلوخة «فصَّلتُ من جلدِ النساءِ عباءةً»…

أما تجاربه النسائية التي تتمظهر كأنها تعدُّدية، فهي لا تضاهي «دون جوانية» عمر بن أبي ربيعة المرتبطة بسيرة حقيقية موازية، فبينما لدى كل منهما «نساء»، إلا أن هذا الجمع النوعيّ لدى العاشق القرشي يتشكَّلُ من نساء. كل امرأة منهنَّ ذات ملامح وهوية وخصوصية، فيما نساء الرجل الدمشقي حشود شبحية لامرأة هلامية تغيب خلف إكسسواراتها وزينتها أكثر من حضورها الجسدي، في غزل فيتيشي/ توثيني، يهتمّ بالأمشاط، والفساتين، والدانتيل، والخواتم، والعطور، والقلائد، والأقراط، وحمّالة الصدر، والمعطف والشالات، والماكياج.. وحتى الجوارب والأحذية، بالإكسسوار الجسدي، لا بتضاريس الشعور الباطني وأصالة التجربة، فشعره حتى في التراجيديا الشخصية يلتبس فيه الشخصي بالعام بكثافة تجعل من العام يطغى على الشخصي. ففي قصيدة «بلقيس»، وهي أكثر قصائده التصاقاً بتجربته الشخصية وتعبيراً عنها، نموذج واضح لهذا الالتباس. وجع الفقدان وفجيعته مرتبطان بالهجاء السياسي، فبدا البطل التراجيدي منشغلاً كثيراً بتأويل الحطام الذي قتلت تحته حبيبته، واختلطت الشهيدة بالمرأة، حتى غدا الهجاء أكثر وضوحاً من الرثاء، والكراهية أوضح من الحب. واللافت هنا أنّ الرثاء لا الغزل هو ما يعبُّر بصدق أكبر عن التجربة الشخصية لنزار. وإضافة إلى قصيدة بلقيس، ثمة قصائده الرثائية لوالده، ولابنه توفيق، بما يجعلها القصائد الأكثر التصاقاً بتجربته الشعورية الأصيلة.

شاعر القضية

وإزاء وصف شاعر المرأة، حاول نزار نفسه الخروج نحو وصف جديد في مرحلة لاحقة، فأعلن أنه انتقل إلى «نادي القضية»، ولكن أي قضية تحديداً؟ لنزار أكثر من قضية، فهو شاعر قضايا، بمعنى هو شاعر مشكلات اجتماعية، وليست وجودية.

لم يكن صاحب «هكذا أكتب تاريخ النساء» معنياً كثيراً بالشعر السياسي في المرحلة الأولى من شعره، فقد قاربه بتردد في قصيدتين هما «رسالة جندي في جبهة السويس» و «جميلة بوحيرد» (ديوان حبيبتي- 1961)، قبل أن يكرِّس ديواناً كاملاً للشعر السياسي بعد هزيمة 1967 «هوامش على دفتر النكسة» منتقلاً من مرحلة الكتابة عن الحب إلى الكتابة «بالسكين» كما سمَّاها. وهي مرحلة أدخلته في طور جديد من أطوار الشهرة، بعد مرحلة شعره الإروتيكي، وقصيدته الاجتماعية «خبز وحشيش وقمر» (1954). في مرحلة تالية، مرحلة تبدأ بنعي سابقتها: «أنعى لكُمْ نهايةَ الفِكْرِ الذي قادَ إلى الهزيمةْ»، «لا تَقْرَأوا أشعارَنا لا تَقْبَلوا أفْكارَنا». ولكن معظم قرّاء الشعر في الربع قرن الذي سبق الهزيمة كانوا قراء نزار قباني، ومع هذا لم يعلن الصمت الشعري مثلاً! ولم يغير طريقته الشعرية، بل صارت نكسة حزيران موضوعاً جديداً سينوّع عليه بعشرات القصائد الأخرى في تأنيب الذات الجماعية، وفي الوقت عينه لا تصاب الذات النرجسية بشيءٍ من هذا التأنيب بل تحتفل بتميُّزها.

شعر نزار قباني يمثل موضوع الهجاء الأثير لدى الجماعة فعلاً، ربما لفهمها البهلواني للحرية، وتصادمها مع الظاهرة الاجتماعية لا الجذور الثقافية للمعضلة. لهذا يبدو شعره وعظياً إصلاحياً، متقدماً قليلاً، على شعر الإصلاح في عصر النهضة، لناحية جرأة أفكاره، ومتقدماً عليه لناحية لغته الأكثر معاصرة والأكثر تقطيراً ونحتاً للمفردة وانتقاء مخملياً بديعاً لها.

من النخبوية إلى الشعبية

هو شاعر يقرأ في «كتاب الحب» ليهجو، فهو يحبُّ العرب ويهجوهم، يحبهم حدَّ الإدانة المطلقة! ويهجوهم ثقافياً ووجودياً، بما يتيح لقصيدته أن تلقى الرواج! يحب المرأة، ويهجوها حدَّ الشتيمة، وعندما يكتب بضميرها، يقدم لنا امرأة هجَّاءة ساخطة على الجميع!

هذا التداخل بين الحب والهجاء، أتاح له أن ينوِّع في طريقة هجائه، فمرَّة يرى الحاكم ولياً في أمة قتلته، فيهجو الشعب القاتل، ومرة يهجو الحاكم بلسان حال الشعب، ومرَّةً يهجو الشعب بصوت الشاعر، ومرَّة يهجو الشعب نفسه كسبب في الهزيمة، لكنَّه أبداً وأبداً ما هجا تلك الذات النرجسية غير القابلة للخطيئة أو الهزيمة. وحتى عندما يستخدم ضمير الجماعة بما يوحي بأنَّ الهجاء يأخذ شكل النقد الذاتي ونبرة الاعتراف، فإن القارئ سرعان ما يشعر أن تلك الجماعة ستخرج من الـ «نحن» إلى الـ «أنتم» في تبرئة للـ «أنا» من عواقب التأنيب وإعفاء الذات المتكلمة من المسؤولية.

لغته في الهجاء تنكيلية، بل عدائية إلى أقصى مدى ممكن، لا تتوانى عن النبز والقدح، لكنها لا تقع تحت طائلة القانون. فالمهجو كائن هلامي لا شخصي، المهجو «حالة» يستطيع أيُّ شخص أن يجعل نفسه خارجها، إنه هجاء موارب رغم قسوته، إنه متذمر متبرم، وإنما لم تكن له مواجهات تاريخية مع أنظمة الحكم، بل إن شعره السياسي ظلَّ يُدرَّس في المناهج الدراسية للأنظمة الشمولية. وقد مدح حسني الزعيم قائد أول انقلاب عسكري في تاريخ سورية، في قصيدة «نشرها في صحافة دمشق ولم يضمها إلى دواوينه»، ومدح جمال عبد الناصر ثم رثاه نثراً وشعراً وسماه «الهرم الرابع»، وتغنى أيضاً بخصال صدام والقذافي نثراً. ووصف اتفاق جناحي حزب البعث في العراق وسورية، بزواجه من بلقيس العراقي: فعل البعثُ ما فعلنا تماماً.

ميزة مهمة لنزار قباني أنه أخرج الشعر من نخبويته إلى شعبيته. إنه أكثر الشعراء شعبية في تاريخ الشعر العربي الحديث، ليس بمعنى الانتشار فحسب، وإنما بطبيعة التلقي ومستوى قرَّائه كذلك. ساهم نزار قباني في تكريس ذائقة سهلة في الشعر العربي، لكنها ليست من ذلك السهل الممتنع، بل السهل المتاح، وأوجد قاعدة عريضة من قراء الشعر، اعتادت الكسل الذهني، والترف الذوقي، وبالنسبة إلى من يرون أن الشعر هو «فن الأقلية الهائلة»، سيبدو شعره أشبه بحديقة منزلية يصبح جمالها مألوفاً حدَّ الاعتياد، فما هو بالبستان، ولا هو بالغابة التي تستغرق وقتاً وربما تجربة كاملة للتعرُّف إلى عالمها وتفاصيلها.

+ -
.