(هل من المغالاة أو التجني مقارنة حال ملوك الطوائف العرب في الأندلس ومآلهم بحال نظرائهم المعاصرين الذين ينتحرون جماعيا اليوم بالاحتراب في ما بينهم والاستقواء على بعضهم البعض بدولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي؟)
بقلم نقولا ناصر*:
إنها لمفارقة تاريخية أن يكون عدد الدويلات الأعضاء في الجامعة العربية اليوم بعدد دويلات ملوك الطوائف الاثنتين والعشرين في الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية هناك عام 1031 ميلادية، وإنها لمفارقة كذلك أن ملوك الطوائف العرب المسلمين أولئك كانوا يدفعون “الجزية” للملك “الذمي” الفونسو السادس وكانوا يستقوون به على الاحتراب في ما بينهم حتى سقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس عام 1492 ميلادية.
فهل من المغالاة أو التجني مقارنة حال ملوك الطوائف العرب في الأندلس ومآلهم بحال نظرائهم المعاصرين الذين ينتحرون جماعيا اليوم بالاحتراب في ما بينهم والاستقواء على بعضهم البعض بدولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي؟
بدأت حقبة ملوك الطوائف في الأندلس بسقوط الدولة العربية الموحدة هناك، وبدأت حقبة ملوك الطوائف العرب اليوم بسقوط الوحدة الجغرافية- السياسية للوطن العربي مع سقوط الدولة العثمانية، في الأقل من وجهة نظر مستشار “الأمن القومي” السابق لرئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو والرئيس السابق لوحدة الأبحاث والتحليل في الاستخبارات العسكرية لدولة الاحتلال الميجر جنرال ياكوف اميدرور كما كتب في الخامس من تموز/ يوليو الماضي.
ويبدو أن أميدرور يرى ما لا يستطيع العرب رؤيته في خضم انتحارهم الجماعي الراهن الذي يعمي أبصارهم والبصائر، فهو يرى في اقتتالهم خطرا وجوديا ليس على العرب كأمة فقط بل وعلى الإسلام، فقد كتب: “نحن نشهد الآن صراعا واسعا وعميقا على تكوين الأمة العربية ومستقبلها، وربما الإسلام ككل”، موضحا أن “المتاعب” العربية بدأت مع “سقوط الامبراطورية العثمانية”.
ومع ذلك ما زال كل المنتحرين العرب يتغنون بأمجاد السلف الصالح وهم يوغلون في تشويه صورته باسمه وباسم رسالته، فقد ولت أزمان مكة وبغداد ودمشق والقاهرة وغيرها من حواضر العرب كمراكز إشعاع رسالي وحضاري كان العالم الغربي يلهث وراءها محاولا اللحاق بها لتنقلب الأدوار اليوم فيكون الوطن العربي الوحيد في عالم اليوم الذي يتراجع بدل أن يتقدم، ويتجزأ بدل أن يتوحد، وتكاد أجزاؤه تتفكك اليوم في عملية انتحار جماعي لم يعد التذرع بتآمر دولة الاحتلال الإسرائيلي ومؤامرات قوى الاستعمار الغربي كافيين لتجاهل العوامل الذاتية لها.
تعليقا على الهجرة المليونية المشبوهة للاجئين السوريين من تركيا التي قررت كما يبدو تصدير مشكلتهم إلى أوروبا بعد أن استنفذت أنقرة أغراضها من استضافتهم لم تغب هذه العوامل العربية الذاتية عن مراسل صحيفة “هآرتس” العبرية آري شافيت ليكتب يوم الخميس الماضي قائلا إن “السبب الأول لهذه الكارثة الإنسانية العربية هو الفشل السياسي العربي “.
ف”الملايين تصوت بأقدامها الآن ضد الفشل الذريع للمشروع القومي العربي الذي فشل في إنتاج دولة واحدة تجمع بين الرفاه وبين الحرية” كما أضاف شافيت.
إن الانتحار في الإسلام محرّم، وكذلك هو في الأديان الموحدة وغير الموحدة، لكن العرب، وهم مسلمون في غالبيتهم العظمى، ينتحرون جماعة اليوم، وهم الذين حملوا رسالته السماوية إلى الإنسانية جمعاء وكانوا منذ ما يزيد على ألف واربعمائة سنة يقرأون أيته الكريمة بأن “لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق”.
فكلهم الآن يدعي الحق والحقيقة لنفسه ويكفّر الآخر ويعدّ المقتلة التي يرتكبها جهادا في سبيل الله ويعدّ قتلاه شهداء مثواهم الجنة وقتلى أعدائه في النار، والقاتل والقتيل يشهدون جميعا بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وفي فلسطين، لا ينظر عربها إلى هذا المشهد المأساوي إلا بعين الغضب والسخط والحسرة على طاقات الأمة التي تستنزف هدرا في سوح قتال أو اقتتال انتحاري تعهّرت فيها كلمات الجهاد والشهادة في سبيل الله حتى فقدت جلالها ومعانيها وهي تُستهلك حدّ الإسفاف بعيدا عن الساح الفلسطيني الوحيد الذي يعطي للجهاد والشهادة في سبيل الله المعنى المقصود لهما سواء في الإسلام أو في الحروب العادلة من أجل التحرر الوطني وحق الشعوب في تقرير المصير.
إن من يسالمون أو يهادنون دولة الاحتلال اليوم بدعوى منح الأولوية للجهاد ضد من يصفونها ب”إسرائيل الشرقية” الإيرانية أو ضد من يصفونهم ب”الصهاينة العرب” إنما يفتعلون المسوغات للغرق أكثر في الرمال المتحركة للانتحار الجماعي العربي.
فالاحتراب العربي – العربي والعربي – الإسلامي المستعر اليوم – – الذي لا “أشهر حرم” فيه كانت تحترم حتى في جاهلية ما قبل الإسلام – – يسفك انهارا هدارة من الدماء العربية تغرق معها كل القيم الدينية والإنسانية التي تحرم قتل النفس التي حرم الله قتلها.
وهذا الاحتراب الانتحاري في وطن العرب الكبير، الذي يضم أكبر احتياطيات الطاقة من النفط والغاز في العالم ويمتلك فوائض مالية هائلة من عائداتها ناهيك عن الإمكانيات الضخمة الكامنة للطاقة الشمسية، يقاتل بأسلحة لا يصنع منها رصاصة بل يستورد كل معداته العسكرية التي ما تكاد تتراكم حتى يدمرها الاقتتال الانتحاري، لتظل دورة الاستيراد والتدمير تدير عجلة الصناعات العسكرية الأجنبية ولتظل الإرادة السياسية العربية مرتهنة لموردي هذه الأسلحة في الخارج.
في يوم ما عام 1973، عندما توفر لديهم عاملا الرؤية الاستراتيجية والاجماع عليها، استطاع العرب استخدام مخزونهم النفطي “سلاحا” في حرب عربية عادلة من أجل تحرير بعض أراضيهم المحتلة عام 1967، لكن سلاح الطاقة الذي من المفترض أن العرب ما زالوا يمتلكونه لو توفرت لديهم الإرادة السياسية الحرة قد ارتد عليهم اليوم، فقد تحول إلى سلاح في احترابهم البيني يستخدم حتى ضد الداعمين الاقليميين والأجانب لخصومهم من العرب ولو على حساب شعوبهم نفسها.
وفي الوطن العربي، وهو المكان الذي يذكر فيه اسم الله أكثر من أي بقعة أخرى على الكرة الأرضية، تدور معظم الحروب في عالم اليوم، وفيه أكبر عدد من اللاجئين والنازحين والمهجرين والهائمين على وجوههم تيها وضياعا في مشارق الأرض ومغاربها، وفيه كذلك أكبر عدد من مهمات “حفظ السلام” في نطاق وخارج نطاق الأمم المتحدة، وعلى أرضه وفي مياهه الإقليمية وحولهما ينتشر أكبر عدد من القواعد العسكرية الأجنبية الأميركية وغير الأميركية، وفيه أيضا الدول الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل والحكومات الفاسدة التي يتطفل الفساد فيها على رمم الجيف المتعفنة لكياناتها السياسية واقتصادها المنهار وحطام بناها الأساسية.
وفي هذه الأثناء يستمر قتل العلماء والمفكرين العرب وتشريدهم وهجرة أدمغتهم وتهجير كفاءاتهم ومهاراتهم بينما معاول التكفير تهدم وتدمر معالمهم التاريخية والحضارية باسم الإسلام الذي حافظ عليها سليمة طوال قرون من الزمن.
وفي عواصم هذا الوطن الكبير المجزأ وأوطان التجزئة السياسية الصغيرة المهترئة التي تتهاوي أمام الأعين اليوم تقود حكومات تستقوي بالخارج والأجنبي وتكفّر دينيا وسياسيا كل من يعارضها تكفيرا يتضاءل أمامه تكفير الجماعات “التكفيرية”، ولا تقل المعارضة لها عنها غلوا في التكفير والتخوين، حتى شككوا شعوبهم في ايمانها وتاريخها فباتت كافرة بهم جميعا وتقبض على ايمانها كالقابض على الجمر أو هي تشك فيه حدّ الكفر.
وهي عواصم مستباحة هدم الاحتراب والاقتتال الانتحاري بناها التحتية وحكمها المركزي وفكك جيوشها الوطنية أو يستدرج ما بقي منها قائما إلى حروب بينية تمهيدا لتفكيكها حتى باتت هذه العواصم مشاريع ضخمة لإعادة الإعمار بانتظار مشاريع “مارشال” أجنبية تنتظر استنفاذ كل طاقة عربية على مواصلة الانتحار الذاتي حتى تعيد احتلال العرب بالاستثمارات الأجنبية التي تغنيها عن الاحتلال العسكري المباشر.
واستباحة الأعراض فيها متفشية كالسرطان لا تعدم وفرة من فتاوى الجهلة لتسويغ انتهاكها بينما باتت “المراكز الرأسمالية” تضع الترويج ل”المثلية” وتفكيك الأسرة باسم حقوق المرأة والطفل والحرية الفردية “ضمن شروط التسهيلات والقروض” التي تقدمها لها كما كتب الكاتب اليساري الأردني موفق محادين مؤخرا.
____________________________
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com