هل سنتمكن يوما ما من أن نصل عقولنا بشبكة الإنترنت؟ روز إفيلِث تبحث في السطور التالية مدى صحة ما قيل بشأن إرسال “أول” رسالة بالبريد الإلكتروني بين عقلي اثنين من البشر.
في الوقت الذي تزداد فيه سرعة الاتصال بشبكة الإنترنت، وكذلك إمكانية بقائنا متصلين بالشبكة؛ بفضل تزايد عدد الأجهزة التي نحملها وتساعدنا على البقاء في وضع الاتصال، يبدو الأمر في بعض الأحيان وكأننا على وشك إجراء اتصالات فورية بعقولنا عبر البريد الإلكتروني.
فأنا أرسل رسالة إلكترونية، تتلقاها أنت وتفتحها ثم ترد؛ كل ذلك في غضون ثوانٍ. وبغض النظر عما إذا كنت ترى أن الاتصالات شبه الفورية جيدة أم لا، فإنها تحدث بالتأكيد.
منذ زمن ليس بالبعيد، كنا ننتظر عادةً لأيام وربما لأسابيع، قبل أن يصلنا خطاب ما نترقبه. الآن، يمكن أن يشعر المرء أن الانتظار لساعات من أجل تلقي رد على رسالة ما، هو انتظار يدوم دهرا.
ربما ستكون الوسيلة الأكثر فعالية على الإطلاق لتسريع وتيرة الاتصال عبر الإنترنت هي السعي من أجل إقامة اتصال مباشر بين العقول من خلال الشبكة العنكبوتية.
فإذا ما رُبط بين هذه العقول إليكترونيا؛ لن يكون الإنسان عندئذ في حاجة إلى اللجوء إلى الكتابة التي تشكل إزعاجا بالنسبة للبعض؛ فببساطة سيكون بوسعنا التفكير في فكرة ما، وإرسالها على نحو فوري إلى صديق، سواء كان معنا في ذات الغرفة، أو بعيدا عنّا؛ في النصف الآخر من العالم.
بطبيعة الحال، لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكن دراسة أُجريت حديثا قطعت الخطوة الأولى في ذاك المضمار، إذ قال القائمون عليها إنهم تمكنوا من إجراء اتصال مباشر عبر الإنترنت بين عقلي شخصين، يقيمان على بعد آلاف الأميال من بعضهما البعض.
لكن الأمر ليس كذلك بالضبط، كما يقول جوليو روفيني، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، والرئيس التنفيذي لشركة “ستار لاب” للتكنولوجيا ومقرها مدينة برشلونة الأسبانية، إذ يوضح روفيني أن ما حدث لا يعدو ببساطة سوى إثبات للمفهوم الخاص بإمكانية إجراء اتصال بين العقول عبر الإنترنت.
فبخلاف ما أفاد به البعض، فإن فريق البحث لم يرسل كلمات أو أفكارا أو مشاعر من عقل شخص ما إلى عقل آخر، بل قام أفراده بأمر أبسط من ذلك بكثير، حسبما سنوضح في السطور التالية.
فقد وصلت إحدى عينتي البحث، وهو في هذه الحالة رجل كان موجودا في وقت إجراء التجربة في ولاية كيرالا الهندية، بجهاز يُعرف بـ”واجهة الدماغ الحاسوبية”، وهو جهاز يقوم بتسجيل الموجات الدماغية عبر تثبيته على فروة الرأس. وقد أعطيت تعليمات لهذا الرجل بأن يتخيل أنه يحرك إما يديه أو قدميه.
وهكذا، فإذا ما تخيل أنه يحرك قدميه كان ذلك يدفع بالكمبيوتر المتصل به إلى أن يسجل رقم “صفر”، أما إذا ما تخيل أنه يحرك يديه، فكان الكمبيوتر يسجل رقم “واحد”.
بعد ذلك، جرى إرسال هذه السلسلة المكونة من هذين الرقمين عبر شبكة الإنترنت، إلى العينة المتلقية، والتي كانت تتمثل في رجل موجود وقتذاك في مدينة ستراسبورغ الفرنسية. وكان ذاك الأخير متصلا بجهاز يحمل اسم (الإنسان الآلي تي إم إس)، وهو عبارة عن إنسان آلي صمم لكي يُرسل للمخ نبضات كهربائية قوية وقصيرة في الوقت نفسه.
عندما كانت العينة المُرسِلة تفكر في تحريك اليدين، كان (الإنسان الآلي تي إم إس) يطلق إشارة كهربائية لمخ العينة المتلقية على نحو يجعلها ترى ضوءاً حتى مع بقاء العينين مغلقتين، بينما لم تكن العينة المتلقية ترى أي ضوء، عندما كانت العينة المُرسِلة تفكر في تحريك القدمين.
ولجعل الرسالة ذات معنى بشكل أكبر، بلّور الباحثون شفرة ما. وفي إطار هذه الشفرة، كانت سلسلة ذات تتابع معين من “الأصفار” و”الوُحْدَان” (وهي الرموز التي تعبر عن التفكير في تحريك اليدين أو القدمين) تعني كلمة “هولا” أو (مرحبا) باللغة الأسبانية، بينما كانت سلسلة أخرى من نفس الرمزين؛ ولكن بتتابع مختلف تعني كلمة “تشاو” وهي (مرحبا) كذلك، ولكن باللغة الإيطالية.
وكان بوسع العينة المتلقية، والتي جرى تعليمها الشفرة بدورها، حل رموز الإشارات الضوئية الواردة للتعرف على ماهية الكلمات التي أرسلت إليها من جانب العينة المُرسِلة.
التركيز العميق
فقد كان على الرجل، الذي مثّل العينة المُرسِلة، التركيز على نحو بالغ للغاية، لكي يحصر اهتمامه في تخيل أنه يحرك يديه أو قدميه، نظرا لأن أي نشاط آخر يشهده المخ في هذه الحالة قد يحجب الإشارات الصادرة منه بخصوص تخيل مثل هذه الحركات، مما يجعل من العسير التقاط الرسالة المقصود إرسالها.
وفي واقع الأمر، كان يتعين تدريب الرجل المُرسِل على كيفية القيام بهذه المهمة على النحو المطلوب.
علاوة على ذلك، لم تكن العملية برمتها تتسم بالسرعة. فبحسب تقديرات الباحثين، بلغت سرعة انتقال المعلومات بين عقلي الرجلين نحو 2 بيت (ما يوازي 0.25 بايت) وهو ما يعني انتقال رمزي (صفر وواحد) كل دقيقة بين العقلين.
ويشير ذلك إلى أن الأمر سيستغرق فترة من الوقت لنقل رسالة، حتى ولو بسيطة، بين العقلين. ولكن بحسب روفيني، فإنه من المثير أن هذا الأمر قد حدث وبدأ المضي في طريقه بالفعل.
ويقول روفيني: “يمكن النظر إلى هذه التجربة من زاويتين. من ناحية، هي تجربة تقنية تماما وإثبات شديد التواضع للمفهوم (الخاص بإمكانية إقامة اتصال بين عقلين).
ومن ناحية أخرى، هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فهذه التجربة تمثل – كما أفترض – لحظة تاريخية بقدر ما، وإن كان ضئيلا. كما أنها كانت مثيرة بشدة. فبعد كل هذه السنوات من التفكير في هذا (الهدف) وإيجاد سبل للقيام به، بدا الأمر جيدا للغاية”.
مجرد إثارة؟
لكن هناك نقاشات تدور حول ما إذا كانت هذه التجربة هي الأولى من نوعها حقا أم لا. ففي العام الماضي، تمكن فريق بحثي في جامعة هارفارد من الربط ما بين دماغ رجل بذيل جرذ، بحيث كان بوسع الرجل تحريك الذيل بمجرد التفكير. وفي العام الماضي أيضا، تمكنت مجموعة بحثية في جامعة واشنطن من إقامة اتصال بين عقلين عبر وسيط إليكتروني.
وفي تلك التجربة كان بوسع المُرسِل التحكم بقدر ما في القشرة الحركية لمخ المتلقي، إلى الحد الذي يمكنه من جعل اليد تدق على لوحة مفاتيح بشكل لا شعوري. وبناء على ذلك، أدلى أحد العلماء بتصريحات لمجلة ” IEEE سبيكتروم” قال فيها إنه يعتقد أن ما قام به روفيني “فيه نوع من الإثارة”. وأشار إلى أن كل ما قام به فريق البحث، ومنهم روفيني، “سبق عرضه”.
غير أن تجربة روفيني هي بالقطع الأولى من نوعها في ما يتعلق بمحاولة إيجاد اتصال بين عقليّ شخصين بعيدين عن بعضهما كل هذه المسافة. كما أنها التجربة الأولى التي يكون بوسع المتلقى فيها تفسير الإشارات الواردة له وهو واعٍ لذلك.
على أي حال فإن لدى جوليو روفيني أحلاما أكبر، إذ يريد نقل مشاعر وأحاسيس، بل وأفكار متكاملة بين العقول. ويقول في هذا الشأن :”التكنولوجيا المستخدمة على هذا الصعيد محدودة بشدة في الوقت الحالي، ولكنها يمكن أن تصبح في يوم ما فعالة للغاية. في يوم ما، سيكون بوسعنا أن نتجاوز الاتصالات اللفظية”.
ويرى الباحث أن تجاوز الاتصالات اللفظية يوفر لنا امتيازات. فتلقي الأفكار مباشرة من عقل شخص آخر، ربما سيسمح للمرء بأن يضع نفسه مكان الشخص الآخر، فيتفهم مشاعره، وهو ما قد يجعل العالم أفضل مما هو عليه.
ويقول روفيني: “أعتقد أن غالبية مشكلات العالم تنبع من حقيقة أن لكل منّا وجهة نظر مختلفة، وأننا لا نتفهم كيف ينظر الآخرون للعالم، أو كيف هي مشاعرهم تجاهه. فمعنى أنك قادر بالفعل على إدراك كيف يشعر الآخرون سيغير الكثير”.
مفاهيم مركبة
وبالنسبة لفريق البحث، فإن الخطوة التالية، قبل المضي قدما إلى مرحلة إرسال “مفاهيم مركبة” عبر هذه الوسيلة من التواصل العقلي، تتمثل في نقل شيء أكثر تعقيدا من مجرد أرقام مثل “صفر” و”واحد”.
وربما يتضمن ذلك تحفيز المخ واستثارته في مناطق متعددة، والمضي إلى ما هو أبعد من مجرد استخدام الإحساس بالضوء كإشارة تستخدم في التواصل بين المُرسِل والمتلقي.
وفي هذا الصدد يقول روفيني: “الطريقة التي نقوم من خلالها بترميز المعلومات في المخ موزعة على نحو معين. ليست هناك منطقة واحدة بعينها (في المخ) يتم فيها تخزين كلمة مثل’مرحبا‘”.
وهكذا، فمن أجل نقل المفردات اللغوية على نحو مباشر بين العقول، يتعين على الباحثين – حسبما يقول روفيني – تحديد كيفية استثارة منظومة المخ بطريقة جديدة.
وإذا ما كان الباحثون يريدون إرسال أحاسيس، فسيتعين عليهم تحديد كيفية تحفيز واستثارة تلك المناطق الموجودة في المخ أيضا. لكن ما يجعل هذه المهمة أكثر صعوبة هو حقيقة أن الباحثين يرغبون في القيام بعمليات التحفيز والاستثارة هذه من الخارج، دون اللجوء إلى أسلوب زرع أي أشياء خارجية في الدماغ، وهو أسلوب يتسم بطابع عدواني، رغم أنه أكثر دقة.
بطبيعة الحال، تنطوي قدرات جديدة من هذا النوع على مخاطر أيضا، فأي شيء يُرسل عبر الإنترنت مُعرضٌ للقرصنة والتعقب. وفي ضوء ذلك، فإن إمكانية إرسال رسالة إلى عقل شخص ما على نحو مباشر تمثل، بالنسبة للبعض، فكرة مخيفة ومروعة.
ويقول روفيني: “من المحتمل أن تستخدم (هذه التقنية) في يوم ما على نحو سلبي. يمكن للمرء أن يحاول السيطرة على الجهاز الحركي لـ (شخص ما)”.
لكنه يلفت الانتباه أيضا إلى أن الباحثين لا يزالون بعيدين للغاية عن امتلاك القدرة على القيام بأي شيء على قدر أقل من التعقيد التكنولوجي.
ومع ذلك، فإنه سيظل من المثير التفكيرفي أنه، بعد عدة عقود من الآن، قد يكون بوسع عقلك أن يتلقى مباشرة رسائل بريد إليكتروني أو رسائل عادية، أو حتى مقالا مثل ذاك الذي تقرأه الآن.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future.