
قبل أيام، انتشر على شبكة الإنترنت كاريكاتور يصوّر معلّمة في مدرسة ابتدائيّة تخاطب طفلاً واقفاً أمام اللوح الأسود قائلة: «إنه لوح أسود، وأنت تحمل لوح طباشير. اكتب ولا تبحث عن أيقونات لتضغط عليها بأصابعك».
وكذلك تبادل هواة الكاريكاتور رسماً لطفلة صغيرة تحمل مجلة فنيّة إلى أمها في المطبخ قائلة لها: «يبدو أن هذا الـ «تابلت» معطل، لأنني ضغطت على الصور بأصابعي، فلم تشتغل اللعبة».
وتذكّر تلك الكاريكاتورات بما يتداوله الناس في أحاديثهم العادية، عن مدى تولّع الأطفال بالشاشات اللامعة للأجهزة الرقميّة، إلى حدّ أن الأكثر صغراً باتوا يمدّون أصبعاً للضغط على أي شيء مسطّح، كأنهم يلاعبون تلك الأجهزة، بمعنى أنهم يرون الشاشات وأيقوناتها في كل شيء وفي كل مكان.
في سياق مشابه، اشتهر عن الراحل ستيف جوبس الذي فجّر عصر اللوح الذكي عبر ابتكار جهاز «آي باد»، خوفه الدائم من أن يفرط أطفاله في استخدام تقنيّات المعلوماتيّة والأدوات الرقميّة كـ»آي باد» و «آي بود»، لما لها من تأثيرات سلبيّة على الأطفال.
وتحمل تلك المعلومة دلالة خاصة بأنّ صانع التقنيّات نفسه لا يسمح لأطفاله باستخدامها بإفراط، ما يعني أنه عارف بوجود تأثيرات سلبيّة لها. وحملت المعلومة وقعاً مثيراً، إذ خالطها شيء من الاستهجان والغرابة، استناداً إلى قاعدة أنّ «صانع السمّ يتذوّقه» وفق مثل شعبي شائع. هل تسيء تلك التقنيّات فعليّاً؟ هل تضرّ حسن الإبداع والسلوك الاجتماعي للطفل، متسبّبة في تقلّص التركيز لديه؟ هل أنّ التوقف أو التخفيف من ساعات استخدام تقنيّات المعلوماتيّة، يساعدان على تحسين مهارات كثيرة عند الأطفال؟
لا شاشة قبل سن الثانية
خلال ستينات القرن المنصرم وسبعيناته، ترك دخول المكنَنَة إلى الأدوات المنزليّة والصناعات الغذائيّة وغيرها، آثاراً عميقة في نمط الحياة اليوميّة، إذ سهّلت حياة المستخدم ووفرت له راحة جسديّة وترفيهيّة، وساعدته على اكتساب الوقت، وإنجاز مزيد من الأعمال. وحينها، بيّنت دراسات كثيرة أنّ تأثير المجتمع الصناعي ظهر بصورة واضحة على الحال النفسيّة للإنسان، إذ لم يثر دخول تلك الأدوات، شكوكاً ومخاوف على حياة الأطفال أو تطوّرهم الذهني، بل اتّجهت الأمور نحو حديث عن حالات الضغط والإحباط والإجهاد النفسي التي عانى الأهل منها، إضافة إلى تأثيراتها على العلاقات العائليّة والأسريّة، وتاليّاً على الأطفال.
واستطراداً، ظهرت دراسات كثيرة عن تأثّر معدّلات الانتحار بتلك المتغيّرات.
ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تناولت مجموعة من البحوث تلك لحالات، لتفحص علاقتها بضغط عمل الأهل على الوضع النفسي للطفل.
لكن الصورة تبدو مختلفة حاضراً، إذ يترك التطوّر التقني تأثيراً على عملية التطوّر الذهني من ناحية، وأدوات دراسة الدماغ من ناحية ثانية. كما شرعت الدراسات المتّصلة بـ «علم النفس العصبي» («نيروبسيكولوجي» Neuro Psychology) تحل مكان كثير من الدراسات النفسيّة الأخرى، كتلك المستندة إلى مدرسة التحليل النفسي الفرويديّة، أو مقاربة المدرسة التطوّرية في فهم عملية اكتساب المعرفة، التي أرساها العالِم السويسري جان بياجيه.
وتحاول دراسات علم النفس العصبي فهم وظيفة الدماغ وخلاياه العصبيّة، وتساعد على وضع أساليب منهجيّة حديثة لدراسة الحالات النفسيّة العصبيّة عند الأطفال، خصوصاً في السنتين الأوليين من العمر.
«لا شاشة قبل سن الثانية، مهما كان السبب». شكّلت تلك الكلمات عنوان أحد تقارير مجلة الـ «ايسونسيل» الفرنسيّة العلميّة التي تصدر كل ثلاثة شهور. وفي قراءة لذلك التقرير، يتبّن وجود دراسات علميّة بارزة عن ذلك الموضوع، كتلك التي أجرتها «الأكاديميّة الأميركيّة لطب الأطفال» بالتعاون مع «جامعة بريستول» البريطانيّة. شملت الدراسة 1000 طفل تقلّ أعمارهم عن عشرة سنوات. وخلصت إلى النتيجة التالية: «لا أكثر من ساعتين يوميّاً أمام الشاشة: ذلك هو الحدّ الأقصى بالنسبة إلى الأطفال تحت السنتين». وشدّدت الدراسة على أن «استهلاك» الطفل لما يزيد على ساعتين يوميّاً أمام الشاشات الرقميّة، يؤدي إلى اضطرابات نفسيّة متنوّعة.
في المقابل، أظهرت استطلاعات متنوّعة حول الوقت الذي يقضيه الطفل أمام الشاشة، أنه تعدى 35 ساعة في الأسبوع في عام 2010، والأرجح أنه تجاوز ذلك الرقم كثيراً منذها.
وفي دراسة أجرتها «وكالة الصحة العامة» في إنكلترا خلال عام 2013، تبيّن أن إنفاق الأطفال أوقاتاً طويلة أمام الشاشات على أنواعها، يؤدي إلى عدم الجديّة في تعاطيهم مع الأمور الحياتيّة والتربويّة والمدرسيّة.
ومن المفارقة أن رأي «أكاديميّة العلوم في فرنسا» خلال العام نفسه، جاء مغايراً للآراء الأخرى كلها، إذ لم تشر الـ «أكاديميّة» إلى وجود تأثير للشاشات على الأطفال. وفي المقابل، لم تلق وجهة نظر الـ «أكاديميّة» اهتماماً يذكر، بل تلقّت كثيراً من النقد، واتّهمت بعدم الجديّة.
ومع استمرار ظاهرة الشاشات الذكيّة في التوسّع، يطرح بعض الناس سؤالاً متهكمّاً وعميقاً عن إمكان أن يلتبس الأمر مستقبلاً على أطفالنا، فلا يميّزون الدب الذي ترسمه تدفّقات الـ «بيكسل» الإلكترونيّة على الشاشات الرقميّة، وبين ذلك الذي يرونه على شاشات التلفزة في القطب الشمالي، بل ربما قابلوه فعليّاً.